لذة قراءة الأرقام
يصعب أن يدعي كثيرون في الوطن العربي أنهم اختاروا تخصصاتهم، لسبب بسيط وهو أننا لا نعرف كأشخاص عند دخول الجامعة ما الذي نرغب فيه! وطبعا هذا يعود إلى التعليم العام بالدرجة الأولى, حيث لا يتم اكتشاف مهارات وقدرات الطلاب، حيث ينتهي به المطاف إلى التخصص الذي يمكن أن يبدع فيه، ولكن الجود من الموجود. لذا تجد البعض يتخبط في حياته الجامعية لأنه لا يعرف ماذا يريد إلى أن يهتدي إلى حظه! لذا لا أستغرب عندما أجد أناسا يتعاملون مع الأرقام حتى بعد مرور سنوات طويلة من التجربة وكأنهم آلات حاسبة. وعندما يوجد هؤلاء، فالمعادلة الأفضل عند المقارنة أن يتم استخدم آلة حاسبة مصنوعة في الصين بدلا من هؤلاء الذين يكلفون الكثير مقابل جهد تقوم به آلة يمكن أن نشتريها بعشرة ريالات!
نجد هؤلاء عندما يصلون إلى مراحل التحليل والقراءة المالية والاقتصادية لأرقام ميزانيات الشركات وحتى الدول. ففي قراءتها الكثير مما يجب أن يستنبط منها. وفيها كثير من الرموز التي يجب أن تفكك. وفيها كثير من الافتراضات التي يجب أن تستوعب. لذا نجد اليوم مهارات فيما يعرف كيفية إظهار الميزانيات حتى وصلت إلى مرحلة التلاعب Window Dressing محاسبياً.
قراءة الأرقام مهارة وفيها لذة حقيقية, لأنها تعني كثيرا من المعاني في حياتنا بأشكالها كافة. وأقول هذا الكلام اليوم بعد نشر ميزانية المملكة وموازنة السنة المقبلة قبل أيام, وكذلك ميزانيات الشركات للعام المالي 2010م المتوقعة خلال الأيام المقبلة. وبطبيعة الحال يكون هناك قراءات متباينة لتلك الميزانيات والأرقام إعلامياً.
فيما يخص ميزانية المملكة كانت التعليقات متفاوتة، حسب النظرة والتي في كثيرها عامة وترحيبية وفي قليلها تحليلية! المميز أن تلك الميزانية أصبحت تحرك وتثير نقاشات حول عديد من النقاط, وهي أمور مهمة في مسيرة الإصلاح العام الذي ينشده قادة البلاد وينشده رجالات ونساء هذا البلد. فما كان يصلح لعقود مضت لم يعد يصلح للسنوات المقبلة إن لم تكن الأشهر القادمة! المهم أن نتناقش ونقاش في هذه الأمور لما فيه الصالح العام، وهنا أشكر الأستاذ عثمان الربيعة على تعليقه في جريدتنا “الاقتصادية” حول مقالي المعنون “شركة لإدارة مشاريع تنمية بأكثر من 260 مليار ريال في عام”. وكذلك كل من علق عليه وعلى مقالاتي السابقة وأرحب بكل تعليق مهني يناقش تلك المواضيع، حتى لو جاءت التعليقات منتقدة.
كتبنا منذ سنوات حول الميزانية وحول أرقامها وهي أرقام مغرية، وتطرب الآذان عند سماعها، وتزغلل الأعين عند قراءتها. لكنها في المقابل تشكل تحديا حقيقيا أمام المسؤولين لتحقيق الطموحات، والتي هي ليست طموحات الملك فقط وتحديا أمامه، ولكنها أيضا طموحات كل مواطن يرى أن له حقوقا وعليه واجبات. وبالذات المواطنين الذين أدوا واجباتهم وينتظرون حقوقهم.
أعود إلى عنوان المقال، وأقول إن قراءة الأرقام كأرقام قد لا تعني شيئا لكثيرين، إن لم تترجم إلى واقع ملموس في حياتنا، وللتدليل لنقرأ أرقام اقتصادنا الكلي وبالذات أرقام الناتج المحلي، ماذا تقول تلك الأرقام؟ تقول إن متوسط الدخل للسعوديين بناء على الناتج المحلي يفوق 70 ألف ريال سنويا في عام 2008م مقارنة بنحو 59 ألف ريال سنويا عام 2007 م، كما جاء في التقرير السنوي لمؤسسة النقد السعودي لعام 2009م. وهي تعني أن متوسط دخل نحو 24 مليون مواطن سعودي في حدود 5.8 ألف ريال في الشهر! هكذا تقرأ. وهي نتيجة قسمة الناتج المحلي والذي بلغ في عام 2008م بالأسعار الجارية نحو 1.758 مليون ريال. لكن محاسبيا، يمكن الوصول إلى المتوسط نفسه (70 ألف ريال) لو أن دخل مواطن واحد ألف مليون ريال و23 مليونا و999 ألفا و999 مواطنا مجتمعين لا يتجاوز دخلهم 31 ألفا و590 ريالا في السنة (2.6 ألف ريال شهرياً)، ولكن يبقى متوسط الدخل محاسبياً 70 ألف ريال. رغم أن هناك من دخله تريليون على سبيل المثال وهناك السواد الأعظم دخلهم 31 ألف ريال على سبيل المثال أيضا.
إذاً، قراءة الأرقام والاستمتاع بها يجب ألا تغنينا عن قراءة الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمجتمع من خلال مؤشرات رقمية وغير رقمية تدعمها قراءات تحليلية قوية لتلك الأرقام وليس فقط ترحيبا بأرقام قد لا تعني كثيرا على أرض الواقع. والله من وراء القصد.
نبيل المبارك