رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هل تفقد المؤسسة التعليمية مصداقيتها؟

هل من الممكن أن تفقد المؤسسة التعليمية مصداقيتها؟ سؤال طرحته على نفسي نظراً لأني أعمل في الوسط التعليمي منذ عشرات السنين, خاصة أني ألاحظ وأرصد - كغيري من العاملين في الوسط التعليمي - التغيرات والظواهر التي تحدث في الوسط التعليمي أو خارجه في أوساط المجتمع وتكون بسبب الوسط التعليمي وما تفرزه ممارساته الإيجابية والسلبية, وما تحدثه من آثار فيمن تتعامل المؤسسة التعليمية معهم, وهم في الأساس الطلاب, أو المؤسسات والجهات المستفيدة من مخرجات المؤسسة التعليمية سواء على شكل كفاءات أو بحوث, أو غيرها من المخرجات.
مر علي خلال عملي في الجامعة كثير من النماذج والممارسات التي تجعل الفرد حائراً في تفسير أسباب وجود مثل هذه النماذج أو الممارسات. وحتى تكون الصورة واضحة أضرب بعض الأمثلة, إذ أكثر من مرة قرأت رسائل ماجستير ودكتوراة منحتها مؤسسات تعليمية لها سمعة وانتشار, لكن هذه الرسائل تفتقد الحد الأدنى من المنهجية العلمية والإضافة المعرفية في المجال, بل تفتقد اللغة السليمة والإخراج والتنظيم, وكثيراً ما تساءلت عن أسباب إجازة هذه الجامعة أو تلك هذه الرسالة, ومنح الشهادة بناءً عليها.
هل العلم والمعرفة جفت ينابيعهما, ولم تعد هناك معرفة جديدة؟! أم أن السمعة التي تحظى بها هذه الجامعة ما هي إلا مجرد أوهام ليس لها في أرض الواقع ما يدعمها؟ أم أن القائمين على الإشراف على هذه الرسائل يفتقدون البناء الأخلاقي الذي يؤهلهم للإشراف والانتساب إلى الجامعة؟! أمور كثيرة تكتنف مثل هذه القضية, لكن أهمها أن من يتصدى للإشراف على الرسائل يفتقدون التأهيل العلمي والأخلاقي في الوقت ذاته, ولا يهمهم سوى رفع أرصدتهم المادية والمعنوية, خاصة إذا كان الطالب أجنبياً, فلا يهمهم سوى المال وكثرة الإشراف على الرسائل التي تدون في السيرة الذاتية.
لكن الخلل الذي يوجد في الجامعة التي منحت الشهادة وفق هذه الرسالة ـ إن صح تسميتها رسالة أو أطروحة, وهي في الحقيقة لا تمثل إلا تصوراً ساذجاً ومنهجية رديئة, ومعلومات غير صحيحة لا يخول الجامعات الأخرى أن ترحب بأصحاب هذه الشهادات التي حصل عليها بأساليب بعيدة كل البعد عن العلمية والموضوعية, لكن الواقع خلاف ذلك, إذ إن أمثال هؤلاء يجدون طريقهم إلى جامعات يفترض فيها الجدية, وهي في واقع حالها خلاف ذلك, وذلك بسبب القرارات الفردية, والفوقية التي تفرض على الأقسام المتخصصة. إن كسر التقاليد الجامعية والأنظمة التي تعطي الأقسام المتخصصة الحق في اتخاذ القرارات ذات الجانب الأكاديمي من قبل القيادات العليا في الجامعات, وبهدف إقامة شبكة علاقات مصالح يضعف الجامعة, ويجعلها في مهب الريح, وليس لها مصداقية, وليس لمخرجاتها جاذبية تغري سوق العمل على توظيفهم لأن فاقد الشيء لا يعطيه, حيث لا معرفة ولا مهارات, ومن حصل على شهادة بصورة هزلية وغير علمية لن يقدم لطلابه شيئاً بل سيكون فيروساً يضعف مناعة المؤسسة التي يعمل فيها.
صورة أخرى تتمثل في أفراد انضموا إلى سلك التعليم وهم بعيدون كل البعد عن المجال التعليمي, ويتساءل المرء بمرارة كيف تسنى لمثل هؤلاء شرف الانتماء إلى هذه المهنة وتدنيسها لأن واقعهم المعرفي وسلوكهم وتصرفاتهم وأخلاقهم, والجامعات التي تخرجوا فيها لا تؤهلهم لهذا المكان؟ وما من شك في أن الخلل الإداري الذي يوجد في الجامعات التي تحتضنهم وتعطيهم فرص العمل فيها هي الملام الأول, والأخير, ذلك أنه لا توجد جهات خارج أسوار الجامعة تفرض عليها انتماء هؤلاء إليها. المشكلة ليست في أنظمة الجامعات, فالأنظمة تؤكد اختيار الأفضل, لكن المشكلة تكمن في ممارسات فردية تتجاوز النظام, بل لا تقيم للنظام أي اعتبار وقيمة.
من صور افتقاد الجامعات مصداقيتها الفارق الشاسع بين الدرجات العالية التي يحصل عليها الطلاب, ومستواهم الحقيقي المعرفي, والمهاري ذلك أن الجامعات في الوقت الراهن لا تزود طلابها بالمعرفة, ولا بالمهارات المطلوبة في سوق العمل, ما يجعل مخرجاتها بضاعة مزجاة لا يقبل بها أحد, ويتندر بها الآخرون, حتى إن أولياء الأمور وأصحاب الأعمال يترحمون على العقود الماضية حين كانت مخرجات الجامعات تتمتع بمستويات معرفية عالية, ومهارات عالية الجودة, وأخلاق رفيعة, وانضباط وسلوك قويم.
وما من شك أن المجال التعليمي منظومة متكاملة العناصر من أستاذ, وطالب, ونظام, ولوائح, وإدارة, ومتى ما تم خرق الأنظمة لأي عنصر من هذه العناصر ستكون النتيجة الحتمية افتقاد الجامعة القدرة على توجيه دفة سفينتها ومن ثم الإخلال بوظيفتها التي وجدت من أجلها. إن وعي قيادات الجامعة وأساتذتها بدورهم, وتوجيه جهودهم نحو الجوانب الحيوية والرئيسية في العملية التعليمية, هما اللذان يجعلان للجامعة قيمة, وجدوى في مجتمعها ويحقق الجودة, والريادة, والتميز بدلاً من توجيه الجهود لأمور, وقضايا هي إلى مجال الدعاية أقرب منها إلى مجال العلم والمعرفة والإبداع.
إن الجامعات التي تمنح المؤهلات كيفما اتفق وبعيداً عن المعايير العلمية, وكذلك الجامعات التي تستقبل المخرجات الرديئة, كلها تسيء للتنمية, وحتمي أنهما ستفقدان المصداقية إن عاجلا أو آجلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي