أيهما أكثر أهمية.. المناخ أم الطاقة؟
اجتمع خلال الأسبوعين الماضيين في كوبنهاجن عاصمة السويد مندوبو 192 دولة لمناقشة السبل التي تحُدُّ من التلوث الجوي والاحتباس الحراري الذي، حسب رؤية غالبية علماء البيئة، سيؤثر سلباً في مستقبل حياة الإنسان، وحضر الجلسة الختامية أكثر من 100 رئيس دولة ومسؤول كبير. ومهما كانت نتائج المؤتمر، فقد حظي باهتمام كبير من قبل جميع دول وشعوب العالم، نظراً لأهمية الموضوع الذي يمس مُقومات حياتنا على كوكب الأرض. وإذا علمنا وأيقنا أن الخلل الذي نحن نخشى حدوثه في طبقات الجو العليا هو من عمل الإنسان نفسه، أدركنا مغزى اهتمامنا وتكريس جهودنا مُجتمعين من أجل إيجاد حلول عملية تحول دون تدهور الوضع ووصوله إلى مرحلة حرجة تكون مُعالجتها غير ذات فائدة ولا مُجدية.
ونحن بدورنا نبارك هذه المبادرة الطيبة من قِبل المخلصين من أبناء الشعوب المختلفة ونتمنى لجهودهم النجاح فيما فيه خير البشرية، ولكننا في الوقت نفسه نود أن نُذكِّر بأن العالم مُقبل على أزمة طاقة ربما يكون تأثيرها على المجتمعات الإنسانية أكثر بكثير من قضية المناخ على أهميتها. فالعالم اليوم يعتمد اعتماداً كبيراً على المصادر النفطية لتوفير الطاقة التي تحتاج إليها عجلة الحياة. ولو عُدنا إلى العقود الماضية وإلى العهد الحاضر لوجدنا أن النفط كان ولا يزال يُباع بأسعار زهيدة، إذا قورنت بأسعار مصادر الطاقة الأخرى، مما سمح للمستهلكين بأن يُسرفوا في استخدامه، وجعله عنصراً أساسياًّ في بناء الحضارة العصرية، بما فيها من تقدم علمي وتكنولوجي ورفاهية مُذهلة للموسرين من أبناء البشر. وعلى الرغم من العلم لدى الجميع بأن الاحتياطي النفطي في العالم محدود الكمية وله عُمْر سينتهي بعد حين، فإن المنتجين الذين يملكون مصادر النفط هم أيضا صاروا أكثر إسرافاً في إنتاجه، مما أوجد في السوق تُخمة نفطية على مدى الأعوام الماضية وقفت عائقاً دون ارتفاع الأسعار إلى مستويات معقولة.
ولن نتطرق في هذا المقال إلى المعركة الحامية بين من يقولون بقرب حدوث ذُروة الإنتاج النفطي وما يترتب على ذلك من نقص حاد في الإمدادات النفطية، وبين الطرف الآخر الذي يُصرُّ على أن ذروة الإنتاج لن تحُلًّ قبل أكثر من 20 عاما مقبلة، فقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مقالات سابقة. ولكن مهما كان مستقبل مصادر الطاقة الهيدروكربونية، فإن الإفراط في استنزاف هذه الثروة الثمينة منطقيا غير مقبول. وكون العالم ساكتاً، أو قل غافلاً عن إدراك أن دنوًّ أجل النفط الرخيص وقرب بدء نقص المعروض سيُسبب إرباكاً للاقتصاد العالمي قد يقود إلى حدوث كوارث معيشية، فكل ما نحتاج إليه اليوم هو نظرة بعيدة لمستقبل البشرية وتخطيط سليم يُؤمِّن لها الاستقرار ويُحافظ على مكتسباتها الحضارية.
ومن العوائق الرئيسة التي تقف حائلاً دون الدخول بقوة في مجال مصادر الطاقة البديلة، هي بدون شك التكلفة العالية لتلك البدائل، إذا قورنت بالأسعار الحالية المنخفضة لمصادر الطاقة النفطية. وهي ليست فقط ما يُدفع قيمة لبرميل النفط، فهناك أيضا البنية التحتية التي ينبغي لها أن تُجدًّد في بعض المرافق لتناسب مصادر الطاقة الجديدة، وهي بذاتها مُكلفة. فالأمر ليس بالسهل ولا باليسير، ولذلك تتجنب الدول الصناعية الكبرى صرف أموال طائلة لاستبدال المواد النفطية ببدائل جديدة، وهم يجدون النفط مُتوافرا لهم وبأسعار جذابة، ولكنهم في النهاية سيدفعون ثمناً أكبر لتأخرهم في اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية. فعند ما يزيد الطلب على الكميات المعروضة من المشتقات النفطية، وهو أمر حتمي الوقوع، لن يشفع للمشتري مجرد استعداده لدفع قيمة أعلى، بل الأكثر إيلاماً هو أنه لن يجد من مصادر الطاقة ما يُلبِّي طلبه بأي ثمن، وهنا تكمن المخاوف من نتيجة عدم المبادرة بإيجاد بدائل جديدة في الوقت المناسب. وحيث إننا سنحتاج إلى سنوات طويلة من أجل توفير مصادر الطاقة البديلة ونبني بُنيتها التحتية ونتكيف معها، تكون فجوة عدم توفير كمية الطاقة المطلوبة قد ازدادت اتساعاً وتدهور الاقتصاد العالمي وارتفعت نسبة البطالة والفقر، حتى يعود الوضع إلى حالته الطبيعية بعد سنوات أطول.
ولعل سائلا يقول: إذا كانت لمستقبل مصير الطاقة هذه الأهمية، فلماذا إذاً لا نرى الحماس الجماهيري نفسه وضغوط منظمات تهتم بمسائل الطاقة، كما هي الحال اليوم مع أصدقاء البيئة الذي نشاهده تجاه التغيرات المناخية؟ والجواب بطبيعة الحال هو أن ما يحدث للمناخ شيء محسوس ويتمثل في حدوث معظم الكوارث الطبيعية التي يُعانيها الإنسان في العصر الحديث. أما ما سيحدث في المستقبل القريب من نقص محتمل في مصادر الطاقة، ولو قليل في بادئ الأمر، فهو حدث لم يشعر به بعد المواطن العادي. ولكنه إذا وقع ونحن لم نُعدُّ له العُدة، فسوف يُحدث صدمة قوية للمجتمعات الدولية، ويتطلب تدارك الوضع وإعادة التوازن إلى معادلة العرض والطلب مدة طويلة. ولذلك نتمنى ونأمل أن تُبادر الدول المتقدمة والغنية إلى تكثيف جهودها لإيجاد حلول عاجلة لتفادي حدوث نقص في إمدادات الطاقة لصالح البشرية جمعاء. ومن أجل أن تكون الصورة أكثر وضوحاً، يتحتم على المجتمعات الدولية أن تُصرَّ على إظهار شفافية مُطلقة فيما يخص الاحتياطيات النفطية المُؤكدة، لأن الموضوع يتعلق بمصير مصدر من مصادر الحياة لا غنى لنا عنه.
وليس هناك ما يمنع الدول التي تمتلك كميات كبيرة من الثروة النفطية أن تكون في مُقدمة المستثمرين في مجالات الطاقة البديلة، مع الاحتفاظ بموقعها في إنتاج النفط، حتى ولو تطلب ذلك تخفيضاً بسيطاً في إنتاجها، لأن هذه الخطوة ستزيد من عمر الاحتياطي النفطي. ومهما أوجدنا من البدائل الجديدة المعروفة اليوم فلن تستطيع أن تُزيح النفط عن دوره الذي لعبه خلال أكثر من قرن. أي أن النفط ستظل أهميته في حياتنا كما كانت عليه منذ عشرات السنين.