الحوار الوطني الصحي.. حوار آخر مع الحوار
لعلي أبدأ هذا المقال بتساؤل: هل الهدف من الحوار الصحي طرح حلول لمشكلات الخدمات الصحية التي يواجهها المواطن أو المستفيد من الخدمة “كما تسمى تجاريا”؟ أم أن الحوار مقتصر على المستفيد من الخدمة لتقديم شكواهم وهمومهم للمسؤولين عن الصحة؟ بعبارة أخرى: هل الحوار مقتصر على المتلقين للخدمات الصحية, أما أن الحوار يقصد منه كيفية الارتقاء بالخدمات الصحية من وجهات نظر متعددة كمستفيدين ومقدمين ومتخصصين في الشأن الصحي؟
إذا كان التساؤل الأخير هو الهدف الحقيقي من الحوار الصحي فإن علينا وضع الاعتبارت الآتية:
أولا: وضع إطار عام للحوار يساعد على ضمان أن الحوار استكمل جميع جوانب الموضوع المطروح للنقاش, فالمطلع على توصيات الحوار الصحي الأخير يشعر بأن التوصيات نظرت إلى الصحة كأنها فقط مستشفى مقدم للخدمة العلاجية دون اعتبار الجوانب الأساسية الأخرى التي تسهم في ضعف مخرجات المستشفيات لكنها ليست بالضرورة مرتبطة بجودة الخدمات الصحية للمستشفيات.
ثانيا: ركزت التوصيات على الإجابة عبر تحديد ماذا نحتاج دون التركيز على كيف نحقق احتياجاتنا. بعبارة أخرى أن توصيات الحوار أوغلت في سرد الحاجات دون التطرق إلى كيفية تحقيقها لأن الجميع يقر بضرورة إصلاح الخدمات الصحية لكن الكيفية التي يتم من خلالها الإصلاح ربما نختلف حولها, لذا أجد أن عديدا من المقالات التي تطرقت للجانب الصحي أغرقت في تشخيص المشكلة الصحية دون تقديم الحلول العملية لكيفية تطويرها. لعل وزير الصحة يعلم أن هناك نقصا وضعفا في الخدمات الصحية لكننا جميعا نختلف في ترتيب أولويات الصرف على الخدمات الصحية. فمثلا أكدت توصيات الحوار الوطني على التنمية المتوازنة للخدمات الصحية وإزالة المعوقات الإدارية التي تحول دون تنمية الخدمات الصحية في مختلف محافظات المملكة، التأكيد على الإسراع في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للخدمات الصحية وغيرها من التوصيات التي أجابت عن ماذا, لكن لم تجب عن كيف؟ لذا أخشى أن تكون توصيات الحوار الوطني الصحي مجرد حبر على ورق لأنها لم تتطرق لكيفية تحقيق هذه التوصيات على أرض الواقع.
ثالثا: علينا أيضا الاتفاق حول حقيقة علمية مثبتة في المجلات المتخصصة وكتب اقتصاديات الصحة تقول: إن الميزانيات الصحية مهما كانت كبيرة فلن تستطيع تلبية جميع الاحتياجات الصحية, لذا نجد أن الدول الإسكندنافية واليابان وكندا وغيرها كدول أوروبا الغربية ممن تعتبر نموذجا ليس فقط في الصرف على الخدمات الصحية لكن في إدارتها ما زالت تعاني نقصا في تقديم الخدمات الصحية لبعض فئات المجتمع. لذا تأتي أهمية وجود آلية عملية تحدد أولويات الصرف على الخدمات الصحية بحيث ينظر لها بعين والعين الأخرى على أهلية العلاج في الخارج, خصوصا للحالات الصحية التي لا نرى جدوى علاجها في المملكة ليس بسبب ضعف الإمكانات البشرية أو المادية ولكن لأنها تمثل حالات فردية من الأجدى والأوفر علاجها في الخارج cost/benefit. أمريكا مثلا لديها أفضل التقنيات العلمية والتجهيزية, بل الجهة الأفضل لطالبي الرعاية الصحية المميزة, ومع ذلك يوجد 45 مليون أمريكي من دون رعاية صحية, فالنظام الصحي الأمريكي يعد نموذجا صارخا في العجز عن تقديم خدمة صحية لمواطنيه.
رابعا: كان من ضمن الحضور في الحوار الصحي الأخير ممثلون لمجموعات تبحث عن زيادة مراكزها في الخريطة الصحية. وإن كانت تلك المجموعات مهمة لكنها لا تمثل الشريحة العريضة من المواطنين الباحثين عن مستوى معقول من الرعاية الصحية. فمثلا مسؤولو الجمعيات العلمية والجمعيات الاجتماعية كانت تريد - ومن حقها ذلك - زيادة مستوى الرعاية المخصصة لرعاياها, لكن السؤال الأهم: ماذا تشكل تلك الفئات من الشريحة العريضة من طالبي الخدمة الصحية؟ وهل يمثلون الشريحة الأهم؟
لا يعني كلامي هذا أنها فئات لا تستحق الرعاية لكن آلية تمويل الرعاية لها ربما تختلف عن مصادر التمويل العام, خصوصا أن مصادر التمويل لدينا - ولله الحمد - متعددة (وإن كانت تحتاج إلى كثير من التقنين). لذا يظل السؤال الصحي قائما ليس حول من يستحق الرعاية, وإنما من هو أولى بالرعاية؟ لأن الجميع من حقه الحصول على الرعاية الصحية لكن محدودية الميزانيات الصحية يفرض البحث عن أولويات الصرف على الفئات الأولى بالرعاية والسواد الأعظم من طالبيها.
المشكلة الأزلية لدينا أننا نريد تقديم كل الخدمات الصحية عبر ميزانية محدودة, التي مهما بلغت ضخامتها لكنها تظل عاجزة عن الوفاء بكل الاحتياجات الصحية.
خامسا: لم يتطرق الحوار الوطني الصحي الأخير إلى جوانب جوهرية تحدد المسار الصحي للبلد, فمثلا لم يتم الاتفاق حول ما الفئات الأهم التي لها الأولوية في تلقي الخدمة الصحية؟ وما الطرق العلمية للتأكد من توفير الرعاية لها؟
كما أن الحوار الوطني الأخير لم يتطرق إلى تحديد أفضل الطرق لتقديم الخدمات الصحية؟ وكيف؟ هذا المحور يحدد هل يكون تقديم الخدمة عبر المستشفيات الحكومية أم عبر المستشفيات الخاصة أم عبر التأمين الصحي أم عبر كبونات للعلاج وغيرها من الطرق المطبقة دوليا.
ثم يأتي سؤال آخر هو: ما هي بوابة تقديم الخدمة؟ هل الرعاية الصحية تبدأ عبر مراكز الرعاية الأولية أم عبر مراكز متخصصة أم مستشفيات؟ وهل مراكز الرعاية الأولية حكومية أم خاصة؟ وكيف يتم ذلك؟
الحوار الوطني الصحي الأخير استأثر بالحديث عن الجوانب الفنية لتقديم الخدمة, وهو محور حيوي وشائك ولا شك في أهميته, لكنه ليس المحور الوحيد المسبب في ضعف الخدمات الصحية. الصحة ليست مستشفى فقط, فجوانب الصعوبات تتنوع ابتداء من كيفية تمويل الخدمات الصحية واستخدام التقنية الحديثة لرفع مستوى الخدمة ومن ثم الجودة الصحية إلى الشرائح الأساسية من الخدمة وكيفية تلبية احتياجاتها, وفق أولويات تحددها الميزانيات المخصصة لكل شريحة وخدمة صحية مقدمة.
ختاما, أتمنى أن يكون للحوار الوطني الصحي المزمع إقامته في نجران الفصل في نقاش هذه القضايا الجوهرية التي تحدد مسار الخدمات الصحية مستقبلا.