الشعوب الاسكندنافية وشعوب الخليج الاستهلاكية

كتب السيد - ليون برخو - مقالاً جميلاً في صحيفة ''الاقتصادية'' في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009م، يُقارن فيه بين شعوب الدول الاسكندنافية الثلاث وشعوب الخليج العربي، من حيث عدد السكان والإنتاج القومي والتركيبة الاقتصادية والحضارية والشفافية. ويُحدد الكاتب الكريم أنه يُريد من المقارنة أن تزيد ثقة العربي بنفسه لكي يلحق بركب الدول المتقدمة، وهذا يُمثل تفاؤلاً فاحشاً. وعلى الرغم من غرابة المقارنة، وعلمنا بأنها مقارنة غير معقولة ولا عادلة، إلا أن لها جوانب إيجابية من الممكن أن تُعطينا بعض العبر فيما يخص النظرة العامة من كلا الشعبين إلى قبول العمل بجميع المهن المشتركة بينهما، والمتوافرة لدى البلدان الاسكندنافية والخليج العربي. وتلك الدول الأوروبية الثلاث معروفة بكونها من أرقى دول العالم من حيث مستوى الحضارة المدنية والمعيشة والتعليم والتقيد بمراعاة النظم والقوانين والتمتع بمستوى رفيع من الحرية الشخصية التي لا تتوافر إلا لقليل من أبناء البشر، إلى جانب الرفاهية المعيشية والاجتماعية التي ينعم بها جميع أفراد الشعب هناك. وهذا كله عكس ما لدينا في بلداننا الخليجية. فمستوى التعليم عندنا أدنى من المتوسط العالمي، والالتزام بأي نوع من القوانين والنظم التي تحكم حياتنا يكاد يكون معدوماً إلا في حالة فرضه علينا بالقوة وتحت رقابة شديدة. ونحن نُفضِّل أن يقوم غيرنا بتأدية أعمالنا إذا أمكن ذلك. أما الحريات الشخصية في مجتمعاتنا فتحكمها الأعراف والتقاليد والتعاليم الدينية. وحتى لا ننكر نعم الله علينا فنحن بطبيعة الحال، ودون أي شك، نتميز عليهم وعلى مُعظم شعوب الأرض بما منَّ الله به علينا من القيم الإسلامية الرفيعة والإيمان بالله وبرسالة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.
 ولكن الذي يلفت النظر ويشد الانتباه من مضمون المقارنة العجيبة هو ما ذكره الكاتب من أن الاسكندنافيين ليس بينهم وافد واحد جاء إلى بلادهم من أجل العمل ومن ثم العودة إلى بلاده. فهم يقومون بأنفسهم بكل أنواع الأعمال والحرف مهما كان نوعها ومستواها، من مهنة تنظيف الشوارع وصيانة مرافق المجاري إلى تأدية جميع المهام الأخرى، والكل يحترم الآخر، رغم الارتفاع القياسي لمستوى المعيشة في البلدان الاسكندنافية. وهنا تكمن المفارقة المخجلة بيننا وبينهم وبين سلوكنا وسلوكهم ونظرتهم لواقع الحياة ونظرتنا لمظاهر الحياة. فنحن من فضل الله لا يكاد يخلو بيت من بيوتنا من وافد أو وافدة، أو ربما أكثر من ذلك، يستقدمهم منْ هو في حاجة لهم ومنْ ليس لديه حاجة مُلحَّة لوجودهم حتى وإن كان يستطيع قضاء أموره الدنيوية بنفسه، ولكنه حُبُّ المباهاة والركون إلى الكسل والخمول. ومن المُؤسف أننا كيَّفنا حالنا ووضعنا الاجتماعي, حيث أصبحنا غير قادرين على العيش دون خدم، إلا منْ منحه الله قوة إرادة وحكمة في التصرف بشؤونه، وهم قِلَّة.
 وشعوب تلك البلدان الأوروبية مشغولة ببناء مستقبلها ومستقبل أجيالها بالعلم والعمل والاعتماد على المجهود الذاتي لأفرادها. أما شعوبنا، فإلى جانب اعتمادها في حياتها على مجهود الغير، فهي دوماً ترنو إلى السكون والحياة المرفهة ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
 ومما يلفت النظر، مقارنة الكاتب الكريم في مقاله آنف الذكر بين الناتج الإجمالي لإحدى الدول الاسكندنافية، وهي السويد، والناتج الإجمالي للسعودية، وكون الناتج للدولة السويدية التي يبلغ عدد سكانها أقل من نصف سكان المملكة أكبر من الناتج القومي عندنا. ووجه الغرابة هنا ليس في مقدار الفارق بين الناتجَين، رغم تفوق عدد السكان في بلادنا، بل بطبيعة المقارنة بين ناتج قومي حقيقي عندهم وناتج غير حقيقي عندنا. وكان الأولى أن نُسمي الأشياء بأسمائها، كأن نقول الناتج القومي عندهم والدخل القومي عندنا. فنحن نحصل على مصدر معيشتنا من بيعنا للإنتاج النفطي الذي يتدفق في بلادنا دون مجهود يُذكر. بينما دخلهم يأتي من بيع الخدمات والمنتجات الصناعية التي يشترك كل فرد منهم في توفيرها، وهذا ما يجعل المقارنة في هذا الحقل غير ذات معنى.
 وإذا أردنا أن نُحقق طموحاتنا ونرقى إلى مصاف الشعوب المنتجة التي تعتمد في كسب معيشتها على سواعد أبنائها وعقول مُفكريها، فعلينا ألا نركن إلى استنزاف ثرواتنا الطبيعية الناضبة من أجل أن نوفر لشعوبنا رفاهية مُزيَّفة عمرها قصير ومآلها إلى الزوال. فعلى الرغم من وجود نسبة لا بأس بها من أبناء شعوبنا من مُتوسِّطي الحال، والبعض منهم يعيشون تحت حافة الفقر، إلا أن العدد الأكبر من أفراد الشعب يوُلدون وفي فم الواحد منهم ملعقة من ذهب. فالخدم يحملونه عن الأرض والسائق تحت رهن إشارته والجيوب دوماً لا تخلو من النقود، حتى إذا بلغ الابن من العمر مبلغ الرجال أطلق لطموحه رغبة الحصول على مركبة جديدة أسوة بزملاء أو شلة يعرفهم. وفي الغالب تُحقَّق رغبته، إذا لم تكن من الأب فمن الأم إذا كانت تملك المال. وفي الغالب تكون لديه الحرية الكاملة في أن يذهب بمركبته حيثما شاء وعلى حساب أوقاته الدراسية. فإذا كان ذلك هو النمط السائد في حياة الشباب، فما الذي سيدفعهم إلى البحث عن أعمال شاقة ومُنتجة إذا أكملوا ما يتيسر لهم من التعليم؟ وليس سراًّ أننا أبناء الخليج أصبحنا مع بزوغ شمس الطفرة النفطية أمة مُستهلِكة وغير مُنتجة. ولكننا في الوقت نفسه، وبقدرة قادر، نتسابق إلى استنزاف ثرواتنا دون أن نُعدّ لأنفسنا ولأجيالنا مصدراً آخر للمعيشة تحت لهيب شمس الصحراءَ الحارقة، وكأننا قد مللنا حياة الإسراف والترف التي أصبحنا مُنغمسين فيها، ونريد أن نعود إلى زمن الشح والعمل الجاد والكد المُثمر. وكم لنا من السنوات ونحن نسمع ونقرأ عن ضرورة تنويع مصادر الدخل في بلادنا حتى لا نظل طوال حياتنا العصرية والمستقبلية أسيرين لدخل النفط، ولكن شيئا من ذلك لم يتحقق. والسبب بيِّن، فكيف لنا أن نُجهد أنفسنا للبحث عن مصادر أخرى للدخل ونحن ننعم من فضل الله بدخل سخي، ونسمع في كل مناسبة تأكيدات بأننا سنزيد إنتاجنا من النفط، الله يُنزل فيه البركة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي