إعادة النظر في إسقاط القصاص عن الوالد

عقوبة القصاص تسمى بهذا الاسم في الشريعة الإسلامية, وفي الدول الأخرى التي تنفذ هذه العقوبة يعبرون عنها بعقوبة الإعدام, وتعبير الشارع الحكيم أدق لأنه عبّر عنها بما يكشف عن خلفية العدالة والمماثلة التي تقتضيها هذه العقوبة.
وبالنظر إلى الواقع المعاصر نجد أن دول العالم على طرفي نقيض من هذه العقوبة, فنجد دولاً تطبق هذه العقوبة حتى في قضايا مالية, فتزهق أرواح بشرية لأجل اختلاسات مالية, كما يقع في بعض دول شرق آسيا مثلا, في الوقت الذي نجد دولاً أخرى تلغي هذه العقوبة حتى في حالة تلطخ يد الجاني بدم الضحية, كما في أغلب دول الاتحاد الأوروبي, ومن المضحك أن يكون في الدولة الواحدة ولايات تحكم بالإعدام وولايات لا تحكم بالإعدام, واحدة, كما هو واقع في الولايات المتحدة, حتى أن الجاني ربما استدرج الشخص المستهدف بالجناية إلى الولاية التي لا تسمح بالإعدام؛ ليقتله الجاني فيها, ويسلم من غائلة الإعدام..!
أما في الشريعة الإسلامية فنجد أن هذه العقوبة قد شرعت لجرائم كبرى تقارع عقوبة الإعدام, ومن ذلك جريمة القتل العمد العدوان, ومن هنا نعمت المملكة بتطبيق عقوبة القصاص في محاكمنا الشرعية عبر إجراءات قضائية حازمة, حيث لا يكتسب حكم القاضي القطعية بالقصاص إلا بمروره على بضعة عشر قاضيا..! وهذا كله من أجل التحوط في عدالة مثل هذه الأحكام القضائية, وهو مما يحسب لجهازنا القضائي, ولا شك.
ومما جرى به العمل في محاكمنا الشرعية إسقاط القصاص عن الوالد - سواء كان أباً أو أماً - إذا قتل ولده, وإسقاط القصاص عن الزوجة أو عن الزوج إذا قتل أحدهما الآخر, وكان للجاني ولد من المجني عليه؛ لأن الولد قد ورث حق القصاص من والده - الأب أو الأم - فيسقط القصاص تبعاً لذلك, والحكم بإسقاط القود عن الوالد, هو قول جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة, مستدلين بأن الوالد سبب إيجاد الولد, فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه, وللحديث المروي عنه ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه قال: (لا يقاد والد بولده) قال ابن عبد البر: «هذا حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق, مستفيض عندهم, يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه, حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفاً» وفي الواقع أن ما قرره الإمام ابن عبد البر محل نظر؛ وذلك أن إمام مذهبه, وهو الإمام مالك, يرى وجوب القصاص من الوالد متى ما تمحض القتل عمدا, ولهذا ضرب مثلاً على ذلك: بما إذا أضجعه فذبحه, فيرى القصاص منه حينئذ, فأما إن حذفه بسيف، أو عصا فقتله لم يقتل به، لوجود شبهة التأديب, وهكذا قال بوجوب القصاص من الوالد للولد: ابن المنذر وابن نافع وابن عبد الحكم, وهذا يدل على أن الحديث لم يتلقه الجميع بالقبول لضعفه, وقد بيّن ضعفه الزيلعي في نصب الراية, سواء من رواية عمر بن الخطاب أو ابن عباس أو سراقة بن مالك أو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, وأما قولهم إن الأب كان سببه وجود ابنه فلا يكون ابنه سبب عدمه, فهذا ينتقض بما إذا زنى الأب بابنته فإنه يرجم, وإن كان هو سبب وجودها, وأيضاً فإن إثم الوالد عظيم بقتل ولده, ولهذا قال الله تعالى في إثم قتل الأولاد :(إن قتلهم كان خطئاً كبيراً), فهل يكون جزاؤه العفو؟ كما أن عدداً من القائلين بإسقاط القصاص عن الوالد, يقولون بإسقاط القصاص عنه فيما إذا ورثه الولد عند قتل الزوجة أو الزوج, وهذا يفتح باب القتل, ويجرئ عليه, وإن كان أصحاب الفضيلة القضاة يوجبون الحد عندما يكون القتل شنيعا, أو عندما يكون في صورة الغيلة, إلا أني أرى ضرورة إعادة النظر في إسقاط القصاص عن الوالد لا سيما في عصرنا الحاضر الذي بدأت تطل علينا الأخبار بين الفينة والأخرى بحوادث عنف أسري يندى لها الجبين, وما الظن في عصرنا الحاضر.. إذا كان المجرم في عصور سابقة يتحايل على إسقاط القصاص بجرائم يرث فيها الولد القصاص, ليسقط القصاص عن الجاني, كما في إعلام الموقعين (3/242)، حيث قال ابن القيم: «وأما الحيل التي هي من الكبائر فمثل قتل امرأته, إذا قتل حماته وله من امرأته ولد, والصواب أن هذه الحيلة لا تسقط عنه القود, وقولهم إنه ورث ابنه بعض دم أبيه فسقط عنه القود ممنوع, فإن القود وجب عليه أولا بقتل أم المرأة, وكان لها أن تستوفيه ولها أن تسقطه, فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة إلى أمها ولو كان ابن القاتل, فإنه لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على أن الولد لا يستوفي القصاص من والده لغيره, وغاية ما يدل عليه الحديث: أنه لا يقاد الوالد بولده (على ما فيه من الضعف, وفي حكمه من النزاع) ولم يدل على أنه لا يقاد بالأجنبي إذا كان الولد هو مستحق القود, والفرق بينهما ظاهر؛ فإنه في مسألة المنع قد أقيد بابنه, وفي هذه الصورة إنما أقيد بالأجنبي, وكيف تأتي شريعة أو سياسة عادلة بوجوب القود على من قتل نفسا بغير حق, فإن عاد فقتل نفسا أخرى بغير حق وتضاعف إثمه وجرمه سقط عنه القود, بل لو قيل بتحتم قتله - ولا بد إذا قصد هذا - لكان أقرب إلى العقول والقياس»، ومن هنا فإن وجوب القصاص هو ما تقتضيه العدالة, وتدل عليه النصوص العامة باستحقاق القصاص, ما لم يعف الأولاد عن والدهم بمحض إرادتهم, والله تعالى أعلم وأحكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي