كارثة جدة وقرار الملك عبد الله جرس إنذار وطني
ما من شك أن كارثة جدة أحدثت زلزالاً عنيفاً في المجتمع السعودي من رأس الدولة الملك عبد الله بن عبد العزيز حتى أصغر فرد في المجتمع, وذلك لعظم الفاجعة وفداحتها, خاصة أنه لم يكن أحد يتوقع أن تحدث مثل هذه الكارثة في بلادنا, ويفقد فيها كثيرون حياتهم, إضافة إلى الخسارة المادية البالغة التي حدثت. لا أخفي أنني كنت من الناس الذين كانوا يرون في أمانة جدة مثالاً يجب أن يحتذى خاصة حين أزورها, وأرى المجسمات الجميلة التي في الميادين, والدوارات التي كان يقال إنها مكاسب إضافية حققتها الأمانة من الشركات التي تسند إليها مشاريع مدينة جدة, إلا أن الأمر بدأ يتكشف شيئاً فشيئاً حتى تأكد للناس أن هذه المجسمات هي المشاريع الحقيقية التي رصدت لها الأموال الطائلة, أما المشاريع الافتراضية الواجب تحقيقها فقد وجدت طريقها بصورة أخرى. وتجسدت هذه الحقيقة عندما نزلت الأمطار, وانكشف المستور الذي حاول بعض مسؤولي أمانة مدينة جدة تبريره بأن جدة لم تر أمطاراً كهذه منذ 22 سنة, مسقطين بمثل هذا التبرير ضرورة التفكير الشمولي والمستقبلي الذي يأخذ في الحسبان كل الظروف والمتغيرات المحيطة بجدة المدينة المتوسعة بسرعة, وبوابة مكة المكرمة.
كيف حدثت هذه المشكلة؟ لا يكفي أن نقول بسبب الفساد الإداري, وما من شك أن هذا هو السبب, لكن الأمر يتطلب أن نسأل كيف وجد الفساد في بلادنا؟ ثقافتنا الإسلامية ثقافة رافضة للفساد, ومحاربة له, ذامة له ولأصحابه. وفي المقابل مؤكدة على الأمانة حيث يقول تعالى «إن خير من استأجرت القوي الأمين», ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة قيل: وكيف تضيع الأمانة؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة», وهذه النصوص تؤكد على شرط أساسي من شروط النجاح في العمل ألا وهو الأمانة. والأمانة تكون حين التعامل مع المال, وخلافه, وكذلك الأنظمة, وآليات إسناد المشاريع, إضافة إلى وضع المواصفات الجيدة للمشروع, الذي يراد تنفيذه, كذلك الأمانة تتضح حين ينفذ المشروع وفي الرقابة على تنفيذ المشروع.
النصوص السابقة تثبت أن ثقافتنا الإسلامية, التي تشكل أساس مجتمعنا تحارب الفساد وترفضه من أساسه لكن الثقافة تحتاج إلى من يطبق مبادئها, وإن نحن فرطنا في هذا الأمر, واخترنا لأعمالنا سواء في المواقع القيادية, أو غيرها من يفتقد خاصيتي القوة والأمانة فإننا نضع بذور الفساد, ونشكل البيئة المناسبة له. الخطأ الذي قد نقع فيه عند اختيارنا, خاصة لمن يشغلون المناصب القيادية, تترتب عليه الممارسات الشللية التي تشكل ثقافة خاصة بأفراد من قد تجمعهم مؤسسة أو دائرة من الدوائر حتى يكون الأمر أشبه ما يكون بالشبكة التي يحمي بعضها بعضا, ويقف أفرادها إلى جانب بعضهم بعضا.
الفساد حتى إن بدا كممارسة فردية إلا أن غياب الرقابة والمساءلة والعقاب, تشكل ظروفاً مناسبة لاستشرائه وتمدده في المجتمع كما تتمدد الخلايا السرطانية في الجسم, وهذا ما تؤكده الوقائع, حتى أن بعض المسؤولين يتصرفون في الإدارات التي يرأسونها كما لو أنها ملك شخصي, وليست مؤسسة عامة, ومثل هؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل (من أمن العقوبة أساء الأدب) وينطبق على كثير ممن يشار إلى فسادهم بالبنان.
سبق أن كتبت في هذه الزاوية بشأن مدننا وتخطيطها, والممارسات الخاطئة التي نرتكبها في حق هذه المدن ومواطنيها, وأول هذه الأخطاء هو تجاهلنا وعدم استفادتنا من الطبيعة الجغرافية للمدن من جبال وأودية, حتى أن بعض المدن أقيمت في وسط أودية كما في حفر الباطن, التي دهمتها السيول قبل بضع سنين, متجاهلين تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجلوس في الأودية, فكيف إذا أقيمت البيوت وسط الأودية وأصبحت هي محل استقرار الناس ليل نهار؟! وهذا يتكرر في مدن أخرى, فالعاصمة الرياض تدفن فيها الأودية, وتحول إلى أحياء, وأبرز مثال على ذلك وادي الأيسن, الذي لم يعد له وجود بعد دفنه وردمه, حيث أقيمت عليه أحياء: العقيق, النخيل, والمحمدية, حتى أن السيول دهمت ساكني حي المحمدية الغربية قبل سنين.
في كل مدينة وزاوية في بلادنا يوجد ما يمكن أن يمثل مشروع كارثة تنتظر الظروف التي تشكلها, وتحدث آثارها السلبية في الناس أو البيئة أو مصادر الرزق, سواء كانت من أثر الأمطار أو محطات الصرف الصحي, التي يساء اختيار أماكنها المناسبة, كما حدث في حائل وفي القصيم سابقاً, وفي محافظة الزلفي حالياً, التي وضعت قرب مساكن المواطنين, وفي وسط مزارعهم التي يعتمدون عليها، بعد الله، في معاشهم, ورغم معارضة الأهالي لذلك, ورغم عدم مناسبة الموقع من الناحية العلمية التي تأخذ في الحسبان المياه الجوفية واتجاه الرياح والقرب والبعد من التجمعات السكانية... إلخ.
إن كارثة جدة والموقف الحاسم الذي اتخذه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يمثلان جرس إنذار يوجب المسارعة لمعالجة القصور وتفادي الأسباب كافة التي قد تشكل كارثة هنا أو هناك سواء في وقت قصير أو بعد مدة, لكن المتضرر أولاً وأخيراً هو الوطن والمواطنون. لذا فإن الجهات الحكومية المنوط بها تقديم الخدمات للمواطنين وتنفيذ المشاريع في جميع المجالات بلا استثناء مطالبة بالإسراع في معالجة الأخطاء السابقة, وتفادي الأخطاء المقصودة أو غير المقصودة مستقبلاً حتى لا يضار الناس في حياتهم وأموالهم, حتى لا يفاجأ ولي الأمر بكارثة أخرى كما فوجئ بكارثة جدة, كما فوجئ بمستوى الفقر في البلاد حين زار الأحياء الفقيرة في الرياض. على أن هذا لا يلغي واجب المحاسبة لجميع المقصرين والفاسدين.