الاستشارات المتخصصة وتكاليف عدمها
''بتكاليف أقل أصبحنا نحقق إنجازات أفضل بعوائد مالية لمصلحة موازنة الدولة إضافة إلى توليد فرص استثمارية لصغار المستثمرين تولد بدورها فرصا وظيفية بعد أن كنا نهدر الطاقات لنحصل على نتائج متواضعة تضاعف شكاوى المواطنين ضدنا, وذلك بعد أن أصبحنا لا نتخذ قرارا مهما كان كبيرا أو صغيرا إلا بالرجوع إلى مكاتب استشارية متخصصة''. هذا ما قاله لي أحد مديري الإدارات الحكومية المعنية بتقديم خدمات عامة للمواطنين, مؤكدا أنه إذا ما قورنت تكاليف الاستشارات مع تكاليف عدمها لأدركت أنها ضئيلة جدا وأن من يعمل دون استشارات إنما يتعمد إهدار الموارد, خصوصا المال والوقت.
هذا المدير الذي أصبحت الاستشارات جزءا رئيسيا من ثقافته في صنع القرار بعد أن ذاق نتائجها المتمثلة في تحقيق الأهداف في الزمن المنشود بأقل هدر في الموارد يقول إن اعتداده بمعارفه وخبراته في مجال عمله التي امتدت إلى أكثر من 15 سنة جعلته يتلقى توجيه رئيسه بعدم اتخاذ أي قرار إلا بالرجوع إلى مكاتب استشارية متخصصة بشيء من الاشمئزاز والرفض على اعتبار أن ذلك استنقاص له ولزملائه ولكنه اليوم يدرك تماما أنه كان واهما وأن المكاتب الاستشارية تستطيع تقديم الأفضل لأسباب عديدة أهمها أنها تجمع المعلومات وتحلل وتشخص الوضع وتطرح الحلول العلاجية بالاستفادة من خبرات نخبة من الاستشاريين الممارسين دون أي اعتبارات عاطفية بتاتا فهي مصانع قرارات عقلانية وفق منهجيات علمية.
يضيف مديرنا هذا أن الأمر لا ينتهي عند تقديم الاستشارة بل يتعداه لمتابعة تنفيذ القرار المتخذ أو الخطة المقرة من خلال مقاييس ومؤشرات علمية منطقية تقيم وتقوم الانحرافات أولا بأول في آن واحد, فالعمل يصبح منهجيا منظما حيث نبذل الجهود الكبيرة قبل العمل لنعمل بهدوء بأقل قدر من المشكلات عكس الوضع القائم سابقا, حيث نبذل أدنى الجهود قبل مباشرة العمل لنعمل فيما بعد بطريقة حل المشكلات التي تتوالد بشكل عجيب لنحصل على أقل النتائج بأعظم الجهود المتواصلة وبأعلى التكاليف مع استهلاك أكثر من نصف يومنا ما يؤثر سلبا في حياتنا الاجتماعية وفي صحتنا بالمحصلة.
وأقول ومن خلال معرفتي بكثير من المديرين في القطاعين الحكومي والخاص وحتى قطاع مؤسسات المجتمع المدني ما زالت الأغلبية من المديرين معتدين بأنفسهم فهم صناع القرار وهم متخذوه ومطبقوه ومتابعو تنفيذه وتقويمه (بتاع كله) وما زال معظم هؤلاء المديرين ينظرون إلى تكاليف الاستشارات التي يسهل حسابها نوعا من الهدر المالي الذي لا داعي له ذلك أنهم لم يقوموا بقياس الهدر المالي والهدر الزمني حال عدم دفع تكاليفها وهو ما يؤدي بالمحصلة إلى هدر كبير في الأموال العامة والخاصة وضعف كبير في النتائج, إضافة إلى التأخر الكبير في إنجاز الخطط التنموية والتوسعية والعلاجية.
اطلعت على خطة أعدها فريق العمل في إحدى الجمعيات الخيرية دون تكلفة لأن أعضاء الفريق يرون أن الاستعانة بمستشار تخطيط وتنظيم ومتابعة لأعمالهم هدر للمال الخيري, فقلت لأحدهم لولا الحياء لقلت لك إن هذا الفعل يندرج ضمن مفهوم خيانة الأمانة لأنكم لا تعملون وفق منهجية علمية تفضي إلى النتائج المرجوة من قيام هذه الجمعية. نعم لقد رأيت خطة أقل ما يقال عنها إنها ''عبط'' لا تمكن أي مدير من التنظيم, وهو ما يعني أنه سيعمل بـ ''الفوضى'' كما لا تمكنه من التقييم, وهو ما يعني أنه يعمل بـ ''بعشوائية ''، ولقد رأيت أحد تقارير الإنجاز لهذه الجمعية فأدركت أنهم لا يفرقون بين المدخلات والأثر, إذ جعلوا من مدخلات عملهم نتائج حتى إنهم ذكروا الاجتماعات الدورية في بند الإنجازات لندرتها الحقيقية على أرض الواقع.
الاستخدام الأمثل للموارد المالية والمادية والبشرية والتعاونية والوقت وتقليل هدرها إلى أقل ما يمكن وتحقيق الأهداف المنشودة بأقل تكلفة وأقصر وقت, الغاية المنشودة من اللجوء إلى المكاتب الاستشارية المتخصصة التي تجنبنا اللجوء إلى اختراع العجلة من جديد من خلال التجربة والخطأ, واللبيب من اتعظ بغيره، نعم اللبيب من استفاد من تجارب الآخرين واسترشد بنجاحاتهم وانطلق من حيث انتهوا بفكر ابتكاري إبداعي يكسر قيود التقليدية, وهذا ما لا يكون بالاعتماد على المعلومات والمعارف والخبرات الفردية مهما عظمت, إذ إن التنوع لدى المكاتب الاستشارية تنوع يندر أن يوجد في عقل مدير مهما كان.
تحويل الجهود كحزمة أشعة الليزر, وهي أشعة مصنعة وليست طبيعية, وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف مهمة ليست بالهينة, كما يظن البعض, يستطيع العاملون في المنشآة أيا كانت أن يقوموا بها وإن بدا لهم ذلك وقاموا به أكثر من مرة فهي عمليات منهجية تتطلب قدرات متكاملة من الدراسة والتحليل والتشخيص وطرح البدائل العلاجية الاستراتيجية والتكتيكية وتطوير وسائل القياس ومؤشرات التقييم والتأسيس لقوة مرنة تستطيع التعامل مع التغيرات والانحرافات دون تكلس أو جمود, وكل ذلك لا يكون إلا من خلال مكاتب استشارية متخصصة تزخر بالمتخصصين تدعم متخذ القرار ومنفذه ومتابعه.
من أكبر أسرار التقدم في الولايات المتحدة انتشار مكاتب خزانات التفكير التي تستقطب الخبرات المتخصصة لتصهرها في مكاتب استشارية متنوعة يلجأ إليها المسؤولون لصناعة قرارات وخطط راشدة تحقق الأهداف بأعلى كفاءة ممكنة وأقل هدر, وهذه المكاتب الاستشارية تنمو بمرور الزمن, كما وجودة, مشكلة محركات دفع جبارة لجميع القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأمريكية ما دفع بأمريكا إلى المراتب الأولى في كل ساحات التنافسية (أكثر من 90 في المائة من الأفكار والاختراعات من أمريكا) فمتى يدرك المدير السعودي أهمية هذه المحركات (السر) وضرورة استخدامها لتنمو تدريجيا في بلادنا لتدعم خططنا التنموية التي تتأخر كثيرا بفعل الهدر الكبير في مواردنا.