رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الحج.. قدسية العبادة ومنافع الحياة

خص الله أمة الإسلام بمواسم عظيمة تطل علينا خلال السنة لتزيد من إيماننا، وتحفزنا على الخير لأنفسنا، والآخرين، ولو تأمل المرء هذه المواسم وطبيعتها لوجد أنها بجانب صورتها التعبدية البحتة التي تربط الفرد بربه, إلا أنها ذات قيمة وفائدة اجتماعية على مستوى المجتمع المحلي الصغير المتمثل في الحي، أو القرية، والمدينة، أو على مستوى الوطن بمساحته الكبيرة أو الأمة بأعراقها كافة، وأقطارها وأماكن وجودها حتى لو كان الوجود على شكل أقلية في بلد آخر.
الحج أحد هذه المواسم العظيمة، التي يلتقي المسلمون فيها بمختلف ألوانهم، وأعمارهم، وانتماءاتهم لأداء فريضة العمر حسب الاستطاعة، لكن هذه العبادة, حتى وإن كانت فردية في أساسها, إلا أنها جمعية موقوفة في زمان ومكان محددين، إذ لا يمكن أن يحج الفرد في أي وقت يشاء، وفي أي مكان يريد، ولذا فالتحرك الجماعي المصاحب لهذه العبادة يمثل رمزاً للإخاء، والألفة، والقوة لأمة المسلمين، ورسالة للعالم أجمع أن المسلمين الذين جمعتهم هذه العبادة، وعلى هذا الصعيد، وفي الوقت نفسه تجمعهم قضاياهم، وهمومهم، مهما كانت طبيعتها اقتصادية، أو سياسية، أو غيرها من الهموم.
تأملت في هذه العبادة الجليلة وأنا أشاهد مقابلات مع بعض الحجاج على بعض القنوات الفضائية، وشعرت بالسمو، وأنا أسمع تعبير الحجاج عن مشاعرهم، وفرحتهم، وهم يحطون في الديار المقدسة، ويشاهدون الكعبة المشرفة، ويصلون في بيت الله العتيق. وقفت أتأمل بعمق كلمات ذلك الحاج المصري الذي وصف حاله وهو يشاهد الكعبة، وكيف أن الدموع بدأت تنهمر بغزارة لشدة فرحه، وما من شك أن هذه الحالة ليست مقتصرة على هذا الحاج بل أمثاله كثر, ذلك أن كثيرا من المسلمين خاصة من ذوي الدخول المحدودة يسعون منذ صغرهم لتوفير مصروفات رحلة الحج، إضافة إلى الإجراءات الإدارية في بلادهم، التي قد تكون شاقة، ومكلفة مادياً، ومعنوياً بهدف استخراج تصريح الحج، وما الحاج التركي الذي أمضى 43 عاماً يجمع تكاليف الحج، وتم له ما يريد هذا العام, وتم تكريمه من قبل حملة حجاج أوروبا، وتركيا إلا مثال على ذلك.
في حديث مع أحد زملاء الدراسة في أمريكا من ماليزيا أخبرني الزميل بأن لديهم في ماليزيا برنامجا للحج، حيث يشترك الفرد في هذا البرنامج على هيئة رسوم، أو اشتراكات بسيطة يدفعها سنوياً، ويحج الناس المشتركون من خلال هذا البرنامج حسب ترتيب يتبع لإعطاء الفرصة للجميع. ومع أنه لا يمكنني إبداء الرأي الشرعي في مثل هذا المشروع إلا أنه يساعد كثيرا من ذوي الدخول المحدودة على أداء هذه الفريضة، وما من شك أن يسر الإسلام وطبيعته القائمة على التكافل الاجتماعي تسهم في ابتكار الآليات، والبرامج الميسرة على الناس أداء مثل هذا النسك العظيم. صورة أخرى  من البرامج أسهمت التقنية كالهاتف، والإنترنت في تيسير تنفيذها برنامج  يتمثل في كفالة حاج الذي تقوم بتنظيمه بعض الجمعيات الخيرية المنتشرة في أنحاء المملكة، وما من شك أن هذه البرامج وغيرها من برامج أعمال البر وراءها جموع وهبت وقتها، وجهدها، ومالها، وتفكيرها خدمة لهذه البرامج، وتحقيقاً لمفهوم التكافل الاجتماعي الذي غرسه الإسلام في نفوس أبنائه، وحبب إليهم فعل الخير، والحث عليه.
تلقيت خلال الأيام السابقة للعيد كثيراً من الرسائل ذات العلاقة بهذه المناسبة الجليلة، وإحدى هذه الرسائل كانت دعوة لحضور توديع مجموعة كبيرة من الحجاج الذين تكفلت بتنظيم حجهم إحدى الجمعيات الخيرية من خلال أعمال البر، والتبرعات التي يقدمها المحسنون من أبناء هذا الوطن المعطاء. لم أتمكن من حضور حفلة التوديع لكني عشت المشاعر داخل ذاتي، وتصورت الموكب، وهو ينطلق من المكان المحدد في الرياض باتجاه مكة المكرمة تحفه عناية الله، وتحيط به الجموع من الناس الذين وفدوا إلى المكان تلبية للدعوة، وفرحاً بهذا العرس التعبدي الذي شارك في نجاحه عدد كبير من الناس. يحيطون به ليس بأجسامهم فحسب، ولكن بقلوبهم، ومشاعرهم، ودعواتهم لأن، يحفظهم الله، ويتقبل منهم الحج، والدعاء، ليتحقق لهم وعد الله بأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
الهدي، والأضاحي ترتبط بهذه المناسبة الكريمة، وفي هذا المجال تقوية الروابط بين أبناء المسلمين، وفي الهدي النبوي الكريم في تقسيم الأضحية إلى ثلاثة أجزاء تأكيد لهذا المعنى، حيث يتصدق المضحي بثلث، ويهدي ثلثاً، ويأكل ثلثاً، وهذه العبادة بدلالتها الشرعية، حيث التقرب لله، سبحانه وتعالى، لها منفعة اجتماعية، حيث تقرب القلوب من بعضها، وما برنامج الأضاحي الذي تنفذه المملكة في كل موسم إلا ترجمة عملية لاستثمار هذا الموسم بما فيه نفع المسلمين، وتأليف قلوبهم، كما أن الجهود التي تبذلها الجمعيات الخيرية في استقبال الأضاحي، وتوزيعها على المستحقين يشكل برنامجاً داخلياً ينفذ داخل كل مجتمع إسلامي لتعم الفرحة المسلمين كافة. في بعض المجتمعات الإسلامية يتم جمع جلود، وأصواف الأضاحي، ويتم استثمارها في صناعات يعود ريعها على المسلمين خاصة الفقراء منهم، وقد ذكر لي أحد الهنود المسلمين أن والده يعمل في هذا النشاط من عقود، إذ إن هذا يمثل مورداً ضخماً لفقراء المسلمين لو تم استثماره بشكل صحيح في المجتمعات الإسلامية كافة. هذه المناسبة لا يقتصر أثرها على الجانب الروحي، والاجتماعي، بل إن الحراك الاقتصادي المصاحب لها يمثل فرص عمل كثيرة داخل المملكة وفي المجتمعات التي يفد منها الحجاج. كم هي رائعة هذه المناسبة، وكم هو عظيم هذا الدين الذي أوجد هذه الفرص، والمناسبات التعبدية، حيث يستفيد المسلم بذاته، ويفيد غيره لتزيد اللحمة، والعلاقة الحميمية بين أبناء الأمة. إن مشهد الحجاج وهم على صعيد عرفات، وأثناء انصرافهم يمثل صورة حية للروح الجماعية لهذه الأمة ووحدتها، وفي هذا درس للمسلمين عامة، وساسة كي يتجاوزوا خلافاتهم، ويتحدوا في وجه عدوهم الذي يتربص بهم الدوائر ليل نهار. وعيدنا، وعيدكم مبارك، أعاده الله على الجميع بالخير والبركات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي