هل تزييف الوعي الجمعي هو الهدف؟
في يوم الأربعاء الماضي وفي أم درمان في السودان عقدت المباراة الفاصلة بين المنتخب المصري والمنتخب الجزائري في نهائيات كأس العالم التي ستعقد في جنوب إفريقيا عام 2010، وحيث إن الفترة التي جرت فيها هذه المباراة تمثل فترة ذهبية للأمة تمر عليها سنويا، لأنها تأتي قبيل موسم الحج وعيد الأضحى المبارك. هذا الموسم السنوي يحمل معه معاني الوحدة بين أبناء الأمة الإسلامية الذين يفدون من كل زاوية في هذا العالم، ويمارسون الشعائر والطقوس نفسها، وفي الوقت نفسه، والمكان، والمظهر، فهل ما حدث أثناء المباراة الفاصلة، وقبلها، وبعدها ينسجم مع هذه المناسبة الجليلة ومعانيها ومضامينها وأهدافها؟ التصرفات الفردية على هامش هذه المباراة ليست غريبة وتحدث في كل مكان من العالم، لكن الأمر المؤسف أن تتم المبالغة في ردود الفعل إزاء الأحداث على المستوى الشعبي، وعلى المستوى السياسي في كلا البلدين، حيث تم استدعاء السفراء، كما تم استنفار وسائل الإعلام بصورة لا تليق بتاريخ البلدين ولا بالعلاقة بين أبناء الأمة الواحدة التي يفترض أن تكون مثالا للعلاقة بين أبناء الأمم الأخرى.
التعبير عن الفرح، سواء ما تم في القاهرة بعد فوز المنتخب المصري في المباراة التي عقدت في القاهرة، كان مبالغا فيه، كما أن الجمهور الجزائري سواء في الخرطوم أو في الجزائر بعد وصول الفريق الجزائري كان لافتا للانتباه، ما يستوجب البحث فيه من عدة جوانب تربوية، نفسية، واجتماعية، ذلك أن ردود الفعل القوية، والتعبير عن الفرح بهذه الصورة ربما يعبر عن كوامن لا بد من الكشف عنها، وسبرها واستقصاء أسبابها .المشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام المرئية تفتقد الجانب الحضاري، وفي بعض الحالات تفتقد التوجيه القيمي المناسب.
إذا كان التعبير عن الفرح يفوق الحدث، فما الأسباب؟ هل العرب كعرق بشري يتسم بالمبالغة في التعبير عن مشاعره الإيجابية، والسلبية ولديه جينات لا يشابهه فيها عرق آخر؟ لا أعتقد أن العرب لديهم هذه الخاصية دون غيرهم من الأعراق، ويدعم هذا الاستنتاج الأحداث التي تحدث بعد بعض المباريات الحساسة في كثير من دول العالم، لكن الأمر يمكن أن يفسر من خلال الأوضاع الاجتماعية، والظروف المعاشية. العالم العربي في الوقت الراهن يعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي، والتوتر نظرا لقسوة المعيشة، وتردي الأوضاع الاقتصادية، ونقص الخدمات، لذا فإن علامات الرفض للأوضاع السيئة تظهر على وجوه الناس شيبا وشبابا، كما تظهر أعراضها على تصرفاتهم، وسلوكهم. التصرفات التي أقدم عليها الجمهور، وحتى كتابة هذا المقال ليست أسبابها مقتصرة على الوضع الاقتصادي، لكن الأوضاع السياسية التي عاشها هذا الجيل، والهزائم التي مرت، وتمر بها الأمة خاصة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتدخلات الخارجية في شؤونها وتمزيق أوصالها تمثل سببا لا يمكن إغفاله، بل في ظني أنه يمثل سببا رئيسا. هل هذه الممارسات تنفيس عن حالات الكبت، ورفض الأوضاع القائمة؟ ومن الذي يهيئ الساحة لمثل هذه التصرفات؟ الإعلام بلا شك لعب دورا بارزا في هذه الإشكالية، حيث مارس بعض الإعلاميين، وبعض القنوات النفخ في النار حتى صار الناس يتأثرون بما تنقله وسائل الإعلام، وما يسمعونه من عبارات استثارة الهمم في قضية خاسرة من أساسها، لكنها في الوقت ذاته لها قيمتها، وفوائدها لمن يتحركون لإثارة الجماهير من وراء الكواليس. إن تزييف الوعي الجماعي، وربط الجمهور بقضايا أقل ما يمكن أن يقال بشأنها إنها ليست بالمهمة لا يمكن استبعاده من المشهد عند تحليل ما حدث على هامش المباراتين، وإلا كيف نفسر إقامة الاحتفالات حتى بزوغ الشمس، وفي المقابل التظاهر أمام سفارة البلد الآخر والاحتجاج، والمطالبة بطرد السفير؟ كما يمكن الاستفسار عن قبول سقوط الضحايا والجرحى في مناسبة يقال إنها مناسبة فرح وانتصار.
الانحدار في التعبير عن المشاعر السلبية، والإيجابية لا يمكن فصله عن سياقه التربوي، ذلك أن طريقة تربيتنا لها دور في هذا الشأن سواء في المنزل أو المدرسة أو في الثقافة الاجتماعية العامة، إذ إن هذه المحاضن التربوية لم تزودنا بآليات حضارية عند التعبير عن المشاعر، وجعلت منا كيانا قابلا للتأثر، والتعبير عن مشاعرنا دونما ترو أو تفكير عميق. المساحة الضيقة في الاختلافات تقابلها مساحة كبيرة من المشتركات بين البلدين والشعبين، لكن المساحة الضيقة هي التي برزت وظهرت أمام الجماهير التي تناست الجوانب الإيجابية، وإلا فهل تختزل كرامة الوطن ومعنى الانتصار في مباراة كرة القدم؟! الشحن الذهني والنفسي حول الأفراد إلى ما يشبه الأجهزة الموجهة عن بعد، وذلك لافتقاد دور العقل في مثل هذه الأوضاع .
العطش الذي تعانيه الأمة وأبناؤها نتيجة كثرة الهزائم وقلة النجاحات، وحالة الإحباط السياسي والاقتصادي والاجتماعي تحول إلى سبب رئيس في النزول إلى هذا المستوى، وتحول البحث عن نجاح إلى حاجة فردية وجماعية، ووجد الجميع فرصتهم للتعبير عنها في هذه المباريات. إن افتقاد مناسبات أجل وأكبر هو الذي يدفع إلى التعبير عن حاجة الناس للفوز بهذه الطريقة، ذلك أن الجماهير التي لم تذق طعم الانتصار منذ قرون هربت لهذه المناسبة الهامشية بحثًا عن الطعم المفقتد. هذه المشاهد تعبر عن أن ينابيع الفرح الحقيقية للأمة قد جفت، لذا يلجأ الناس إلى هذه المناسبات مع تواضعها بحثًا عما يبهجهم ويسليهم وينسيهم همومهم، ويعوضهم عن ظروف الشقاء المعيشي.