أسعار النفط .. إلى أين تتجه؟
هناك رؤية عامة - تتضح من خلال قراءة التقارير المتعلقة بأسواق السلع - بشأن أسعار النفط ترجح اتجاهاً تصاعدياً لعدة أسباب, منها المتعلق بأساسيات السوق والوضع الاقتصادي العالمي العام، ومنها المتعلق بأساسيات صناعة النفط نفسها التي يؤكد كثير من الاقتصاديين أن هناك طلباً لن يستطيع العرض من النفط (إنتاج ''أوبك'' والدول الأخرى خارج ''أوبك'') الإيفاء بمتطلباته. هذه الرؤية أكدها زميلي الدكتور أنس الحجي المتخصص في اقتصاديات الطاقة في محاضرة ألقاها في ندوة رعتها ''الاقتصادية'' في نهاية أيلول (سبتمبر) تضمنت تحليلاً (متميزاً كعادته) لأبعاد صناعة النفط واتجاهات الطلب والعرض والأسعار فيها. وفي هذا المقال أستعرض آراء بعض الاقتصاديين والمستثمرين في أسواق السلع بخصوص اتجاهات أسعار النفط خلال الفترة المقبلة.
في جانب المستثمرين، أشار لقاء أجرته مجلة ''بزنس ويك'' هذا الأسبوع مع بايرون وين - رئيس الخدمات الاستشارية في شركة الملكية الخاصة بلاكستون التي يملكها وارن بافيت – إلى أن هناك اكتشافات نفطية تعادل بالكاد ما يتم استنزافه من النفط، كما أن الاقتصادات الناشئة واقتصادات الشرق الأوسط تستهلك حالياً 20 مليون برميل من النفط يومياً، وهذا الاستهلاك سيرتفع إلى ما يقارب 42 مليون برميل يومياً خلال الـ 20 عاما المقبلة. وبما أن الاحتياطيات لن ترتفع بالقدر الكافي في المستقبل، كما أن بدائل النفط لا يعتقد أنها ستحل محل النفط، فهو يعتقد أن أسعار النفط سترتفع لا محالة.
وبخصوص السلع بشكل عام (النفط، النحاس، والذرة) والنفط بشكل خاص يعتقد جيري كاري كبير اقتصاديي السلع في ''جولدمان ساكس'' في تصريح نشر في العاشر من هذا الشهر أن ارتفاع طلب البلدان النامية وتجاوز الطلب العام للمعروض من السلع سيؤدي لا محالة إلى ارتفاع أسعار النفط، خصوصاً في ظل تحسن أساسيات الاقتصاد العالمي ومحدودية المعروض في أسواق النفط. لذلك تشير توقعات ''جولدمان ساكس'' إلى أن أسعار النفط ستبلغ 85 دولارا للبرميل بنهاية هذا العام ، كما أشارت التوقعات نفسها إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية الأخرى كالذرة والنحاس بنهاية هذا العام.
وكان ''جولدمان ساكس'' قد نشر تقريراً في أوائل حزيران (يونيو) الماضي أشار فيه جيري كاري إلى أنه في ظل التحسن الطفيف في وضع الأزمة المالية العالمية، وفي ظل محدودية المعروض من النفط في الأسواق العالمية، فإنه يتوقع أن يبلغ سعر النفط 90 دولارا للبرميل خلال 12 شهراً، أي أنه في منتصف 2010 يتوقع أن يرتفع النفط مجدداً إلى مستوياته السابقة التي بلغها في 2007 و2008، وكما أشرت فإن محدودية القدرة الإنتاجية وعدم مجاراة العرض الطلب من النفط، هما أكثر سببين يجعلان المحللين يرجحون ارتفاع أسعار النفط.
الأسعار في السوق المستقبلية للنفط تؤكد أيضاً ارتفاعا مستمرا لأسعار النفط سواء على المدى القريب أو البعيد، حيث تجاوز سعر النفط المستقبلي تسليم كانون الثاني (ديسمبر) 78 دولارا للبرميل، كما أن سعر التسليم على المدى الطويل 2017 Long Dated تجاوز 100 دولار للبرميل، أضف إلى ذلك أن منحنى الأسعار المستقبلية للنفط اتخذ منحى تصاعديا مستمرا خلال الفترة السابقة, ما يشير إلى توقعات متزايدة في أوساط المستثمرين والمتعاملين باستمرار ارتفاع أسعار النفط. لكن ما دام هناك قناعة لدى محللي أسواق السلع بأن الاقتصاد العالمي سيشهد عجزاً في المعروض من النفط ، فلماذا انخفضت أسعار النفط؟ وهل كان هناك انخفاض كبير في الطلب على النفط يفسر كل الانخفاض الذي حدث في الأسعار العام الماضي؟
يمكن أن يفسر ذلك بأن أسعار النفط تتأثر بعاملين رئيسيين كأي قطاع من القطاعات الاقتصادية الأخرى. فالعامل الأول أساسيات الاقتصاد العالمي، والثاني أساسيات الصناعة. وتختلف درجة كل عامل باختلاف الظروف الاقتصادية، فأحياناً يكون تأثير أساسيات الاقتصاد العالمي أقوى من تأثير أساسيات الصناعة، وهو ما جعل أسعار النفط تنخفض بشكل كبير خلال بداية الأزمة المالية العالمية. لكن مع التحسن التدريجي والبطيء في أساسيات الاقتصاد العالمي يبدأ المستثمرون والمحللون في النظر بشكل أكبر إلى أساسيات الصناعة النفطية التي تتميز بتعدد وتعقيد العوامل الداخلة فيها، وحينها يرجحون ارتفاع أسعار النفط، وهو ما يلاحظ عند قراءة التقارير الاقتصادية التي تركز على الرؤية بخصوص أسعار النفط.
هذه الرؤية المتفائلة لاتجاهات أسعار النفط ستنعكس بشكل إيجابي على أساسيات الاقتصاد السعودي والاقتصادات الخليجية الأخرى، وهو ما يجعلنا نتفاءل بانعكاس إيجابي لذلك على الأسواق المالية الخليجية وعلى الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية الأخرى. وسرعة الاستجابة تلك ستظل مرهونة بتحسن العامل الأول المتعلق بأساسيات الاقتصاد العالمي التي يتوقع كثير من الاقتصاديين اتجاه تحسن عام لكن بطيء لها, خصوصاً في ظل استمرار معدلات البطالة في الاقتصادات المتقدمة في الارتفاع. لذلك سيكون عام 2010 عاما حاسما بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي بشكل عام, والسعودي بشكل خاص, حيث يمكن أن يمثل منعطفا جديدا لدورة اقتصادية جديدة.