الاقتصاد العالمي وقوة تحمله وكيفية إزالة القيود

إن الحكمة التقليدية نادراً ما تجتاز الاختبار تحت الضغط، والواقع أن القليل من الاختبارات كانت مجهدة بقدر ما تحمله الاقتصاد العالمي على مدى الأشهر الـ 24 الماضية. لقد بزغ فجر موسم جديد من إعادة التقييم، فسلط ضوءاً جديداً على الأفكار التي كثيراً ما تسود في أوقات الازدهار، مثل قيمة الأسواق المبهمة، أو الوضع الحصين الذي يتمتع به المستهلك الأمريكي، أو الحكمة الحصيفة في إزالة القيود.
ولكن قطعة واحدة من الحكمة الزائلة نجت بلا ضرر نسبياً، وهي تتلخص في افتراض مفاده أن بلدان ''البرهص'' ـ البرازيل وروسيا والهند والصين ـ ستتولى تحديد نغمة الاقتصاد لأعوام مقبلة. إن هذه الفكرة التي صيغت في تقرير جولدمان ساكس الصادر في عام 2003، ليست سيئة بالكامل: فبنسبة من الصحة تقرب من 75 في المائة، تكون هذه الفكرة قد سجلت نجاحاً أعظم كثيراً من أغلب التكهنات الاقتصادية في أيامنا هذه.
غير أن الأزمة الاقتصادية التي بدأت في عام 2008 فضحت واحدة من هذه البلدان الأربعة باعتبارها محتالة. فإذا ما وضعنا الإحصائيات الحيوية للاقتصاد في كل من البرازيل وروسيا والهند والصين جنباً إلى جنب، فسيتضح لنا على نحو مؤلم أن أحد هذه البلدان مختلف عن بقيتها.
إن ضعف الاقتصاد الروسي، وبنوكه وشركاته التي تعتمد إلى حد كبير على الروافع المالية، وبصورة خاصة تلك التي وضعت على وجهها في الأعوام الأخيرة قناع الثروة التي هبطت عليها نتيجة لارتفاع أسعار النفط والغاز، أصبحت مكشوفة على مرأى ومسمع الجميع مع تراجع الاقتصاد العالمي. وتحت وطأة البنية الأساسية الصدئة المتهالكة خسرت روسيا أهليتها على نحو متزايد بفعل السياسات المختلة والانتقامية والاتجاه الديموغرافي الذي يقودها إلى انحدار يكاد يكون محتماً.
وحتى في ظل الانتعاش المتواضع في أسعار السلع الأساسية على مدى الأشهر الستة الماضية، فقد شهد قطاع الطاقة في روسيا انحداراً في الإنتاج أثناء الأعوام الأخيرة، ويرجع ذلك جزئياً إلى المخاوف المنتشرة بين المستثمرين الأجانب من مصادرة أصولهم. أما صندوق الثروة السيادية الروسي، الذي يشكل جزءاً بالغ الأهمية في دعم اقتصاد متراجع إلى المركزية على نحو متزايد، فقد بدأ في النضوب السريع. وإذا استمرت الميول السلبية فقد تنفد الاحتياطيات الروسية في نهاية المطاف.
ولقد تسبب انحدار روسيا في الوقت نفسه في توليد نوع من المنافسة بين الأكاديميين، وجهابذة السياسة الخارجية، والمستثمرين المثقفين المطلعين على بواطن الأمور، الساعين جميعهم إلى احتلال المقعد الذي تشغله البلاد في ناد قوى اقتصاد السوق الناشئة الكبرى. ولقد اقتُرِح عدد كبير من الصيغ، من تلك الصيغة اللطيفة التي تضيف أوروبا الشرقية وتركيا إلى البرازيل وروسيا والهند والصين، إلى صيغة ثانية تضيف كوريا الجنوبية إلى المجموعة السابقة، إلى صيغة أخرى أعظم إبداعاً، والتي تضيف المكسيك أيضاً إلى المجموعة.
وفي كل هذه الصيغ تظل روسيا باقية، على الرغم من المشكلات التي يعيشها اقتصادها. وفي حين تحتفظ روسيا, أضخم ترسانة نووية في العالم (ولو أنها تعاني الشيخوخة بعض الشيء)، فضلاً عن احتفاظها بالمقعد الدائم (وبالتالي حق النقض) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فهي الأكثر مرضاً بين أفراد تلك المجموعة.
ومن منظور الإمكانات والعوامل الاقتصادية البحتة، فإن الحجة تصبح أقوى كثيراً بالنسبة لكوريا الجنوبية، فهي القوة الاقتصادية المتطورة التي لا تعاني إلا نقطة ضعف واحدة تتلخص في خطر انهيار النظام في جارتها التوأم في الشمال فتغرقها بموجات من اللاجئين الجوعى. ويصدق القول نفسه بالنسبة لتركيا، التي تتمتع بقطاع مصرفي قوي ونشط، وسوق داخلية مزدهرة، وأهمية متزايدة في الشرق الأوسط وسياسات الطاقة، فضلاً عن التحاقها بعضوية منظمة حلف شمال الأطلنطي، واحتمالات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، والعلاقات التي تربطها بأبناء عمومتها العرقيين في مختلف أنحاء آسيا الوسطى.
ولعل الحجة الأكثر قوة بين الجميع تكون لمصلحة إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأضخم في العالم، والتي تتمتع بطبقة متوسطة سريعة النمو، وسياسات ديمقراطية مستقرة نسبياً، واقتصاد كان الأفضل أداءً في آسيا على الرغم من الركود العالمي. والواقع أن إندونيسيا تشكل في نظر أمريكاً بديلاً جذاباً لروسيا، التي أصبحت في الآونة الأخيرة تنافس فنزويلا في حمل لواء مناهضة أمريكا.
فضلاً عن ذلك فقد أظهرت إندونيسيا قدراً كبيراً من المرونة، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل وأيضاً كأمة. فعلى الرغم من تركيبتها العرقية المتنوعة وأرضها التي تتألف من جزر متباعدة، إلا أنها تمكنت من التحول السريع بعيداً من الدكتاتورية العسكرية كما تعافت من عدد لا يحصى من التحديات والنكسات، بما في ذلك الأزمة المالية التي ضربت آسيا في عام 1997، وموجة المد العارمة (تسونامي) في عام 2004، وظهور الإسلام المتطرف، والاضطرابات الداخلية. ورغم أن نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في إندونيسيا ما زال منخفضاً، فإن إمكانات وقدرات أي بلد هي التي تشكل الأهمية الفارقة في الشؤون الاقتصادية، وهنا يلمع نجم إندونيسيا.
إن إندونيسيا أقل اعتماداً على الصادرات مقارنة بنظيراتها في آسيا (ناهيك عن روسيا)، ولقد نجحت أسواق أصولها (الأخشاب، وزيت النخيل، والفحم بصورة خاصة) في اجتذاب الاستثمار الأجنبي الرئيس. وفي الوقت نفسه اتخذت الحكومة في جاكرتا موقفاً قوياً في التصدي للفساد، وبدأت في التعامل مع المشكلات البنيوية. وحتى الميول الديموغرافية تعزز من موقف إندونيسيا، التي أصبحت بتعداد سكانها الذي بلغ 230 مليون نسمة رابع أضخم بلد في العالم من حيث عدد السكان ـ وهذا يفوق تعداد سكان روسيا بما يزيد على 80 مليون نسمة (تعداد سكان ألمانيا بالكامل).
ولكن الأفكار الجذابة لا تموت بسهولة، وتعمل روسيا الآن على ترسيخ المفهوم الحالي الذي يدور حول تفوق البرازيل وروسيا والهند والصين، وتحويله إلى حقيقة ثابتة لا تقبل التشكيك. لقد بدأت جهود تصوير هذه البلدان الأربعة وكأنها مؤسسة عالمية تفرض نفسها على أرض الواقع في حزيران (يونيو) حين التقى زعماء البلدان الأربعة (في روسيا بالطبع) في إطار أول قمة جمعت بينهم.
ولقد أسفر ذلك الاجتماع عن هجوم مركز ضد الولايات المتحدة، حيث أعلن كل عضو عن رغبته في إسقاط الدولار كعملة احتياطية عالمية. وقبل ذلك ببضعة أشهر، أصدر الزعماء الأربعة بياناً مشتركاً قبيل انعقاد قمة مجموعة العشرين في نيسان (أبريل)، معربين عن عزمهم المشترك على تغيير قواعد النظام الاقتصادي العالمي.
وفي القطاع الخاص، تكاثرت صناديق مؤشر البلدان الأربعة، رغم تراجع جولدمان ساكس عن رهانها على البلدان الأربعة حين طرحت صيغة الدول الـ 11 المقبلة. ويضيف هذا التجمع الجديد بنجلادش، مصر، إندونيسيا، إيران، المكسيك، نيجيريا، باكستان، الفلبين، كوريا الجنوبية، تركيا، وفيتنام إلى الرادار الاقتصادي، وإلى جانب البلدان الأربعة فربما يشتمل هذا التجمع على ''طبقة أولى'' منطقية من القوى الاقتصادية الناشئة.
إن روسيا تعرب عن ازدرائها لفكرة تنزيل مرتبتها الاقتصادية، ويبدو أن المسؤولين الأمريكيين قد قرروا الابتعاد عن هذه المناقشة الدلالية. ومع ذلك فلا ينبغي لأحد أن يندهش إزاء الضغوط الشديدة التي مارستها روسيا من أجل عقد قمة بين البلدان الأربعة (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) في يكاترنبيرج، وتحملها للقسم الأعظم من فاتورة التكاليف المترتبة على هذه القمة. ولكن لماذا تعرض روسيا نفسها لخطر الفضيحة قبل الأوان؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي