عفاس وغياب التحليل المنهجي وتبديد الثروات
بعد أن حلل عفاس مشكلة الخمول الذي اعتراه من خلال خبراته العملية السابقة توصل إلى أن ارتفاع السكر هو السبب الرئيس وراء ذلك الخمول فهرع إلى إبرة الأنسولين ليغرسها في جسده, وما هي إلا لحظات حتى دخل في غيبوبة بسبب انخفاض السكر في دمه بشكل كبير إذ شخص عفاس حالته بخلاف الواقع، حيث كان يعاني لحظتها من انخفاض في السكر في الدم وكان عليه أن يأخذ شيئا من السكر ليرتفع إلى المعدل المناسب.
التحليل وفق منهج غير علمي وغير دقيق أفضى لتشخيص خاطئ جعل العلاج المقترح جزءا من المشكلة لا لحلها، تشخيص عفاس لحالته بطريقة اعتباطية جنبه بذل الجهد ودفع المال واستهلاك الوقت لكنه كان سيخسر أغلى ما يملك وهي حياته، ولو استخدم عفاس جهاز تحليل السكر في الدم أو ذهب لأقرب مستوصف (بذل جهد ومال ووقت يتناسب وحالته) قبل أن يقدم على أخذ العلاج لما دخل في الغيبوبة التي كادت تودي بحياته, ولأخذ العلاج المناسب دون مضاعفات.
التشخيص دون تحليل منهجي يتناسب والقضية أو المشكلة ونوعيتها وحجمها يؤدي إلى علاجات سطحية وقرارات ضعيفة الجودة تولد مشكلات جديدة بدل أن تفضي لحلول ناجعة, ولكنها ثقافتنا في الصرف على الملموس وغير الملموس إذ تجد أحدنا مستعد أن يصرف 100 مليون ريال على بناء سوق لأنه يلمسه كمبنى قائم على أرض له ولكنه غير مستعد لصرف مليون ريال لدراسة تحليلية لمعرفة ما إذا كانت المنطقة تحتاج لسوق جديد أو أن الموقع المقترح مناسب لبناء سوق تجاري أو أن التصميم المقترح يتناسب والتطورات المستقبلية في عالم الأسواق, ذلك أن نتائج الدراسة غير ملموسة ولا تدر عليه مالا كما هو وضع السوق، فالدراسة لا تعطيه سوى أوراق تشتمل على أرقام وتوصيات لا يدرك قيمتها في حماية الـ 99 مليونا المتبقية من الضياع إذا ثبت أن السوق استثمار غير مجد، وقيمتها في ضبط صرف الـ 99 مليون ريال المتبقية ورفع كفاءتها لتعطي أفضل النتائج الممكنة في حال كانت المنطقة في حاجة لسوق جديدة.
التحليل المنهجي الذي يؤدي للتشخيص السليم والدقيق الذي يُمكن متخذ القرار أو المخطط من اتخاذ قرار جيد أو بناء خطة عالية الجودة غائب عن ثقافتنا, ما يؤدي إلى تشخيص خاطئ ومن ثم إلى قرارات غير جيدة وخطط ضعيفة لا تحقق الأهداف, مولدة مشكلات جديدة تستدعي العلاج هي الأخرى, ما يبدد ثرواتنا ويضيع جهودنا ويعوق تنفيذ خططنا التنموية. نعم, فمن لا يبذل جهودا فكرية كبيرة (دراسة، تحليل، تشخيص، تخطيط، خطط بديلة، خطط طوارئ، خطط تأهيل... إلخ) سيبذل جهودا كبيرة في معالجة الأخطاء وحل المشكلات التي لا تنتهي ويضيع الوقت بشكل محبط, وهو ما جعل البعض لا يثق بالتخطيط ويؤثر العشوائية ويرفض التنظيم ويفضل الفوضى لعلها تكون فوضى خلاقة ولو بالمصادفة.
من يروج لثقافة التحليل المنهجي في مجتمعنا من أجل الوصول للتشخيص السليم لكل قضية أو مشكلة لحلها بأقصر الطرق بما يعزز كفاءتنا باستخدام الجهد والمال والوقت بأقل درجات التبديد؟ البعض يقول إن التحول الهيكلي في اقتصاد بلادنا كفيل بذلك, فالأسواق المفتوحة تشعل المنافسة الشرسة التي بدورها تدفع بمجتمع الأعمال لاستخدام جميع أدوات التنافسية التي تساهى عنها أيام الرعاية والحماية الحكومية, ومنها أدوات التحليل المنهجي والتخطيط الاستراتيجي ومعايير ومؤشرات التقييم والتقويم، وبدوره سيقوم القطاع الخاص بالضغط على الأجهزة الحكومية لاستخدام تلك الأدوات أيضا كي تتواكب سرعتها وكفاءتها مع سرعته وكفاءته وإلا خسر الجميع لصالح المنافسين الأقوى من خارج البلاد.
وأقول هذا صحيح ولكنه يحتاج إلى وقت طويل في ظل عدم وعي كثير من العاملين في القطاعين الحكومي والخاص وحتى مؤسسات المجتمع المدني بحقيقة تحول اقتصادنا من الهيكل الرعوي إلى هيكل قوى السوق, فضلا عن عدم معرفتهم بالأسواق التي تحولت إلى هذا الهيكل مثل سوق الاتصالات وسوق الأوراق المالية والأسواق التي في طور التحول مثل سوق الكهرباء والإنتاج المزدوج وسوق الإسكان وسوق الغذاء والدواء وغيرها، وبالتالي فإن على جهة ما أن تقوم بتوعية المسؤولين في الأجهزة الحكومية ورجال الأعمال والقائمين على مؤسسات المجتمع المدني بمعرفة ماهية وأهمية أدوات المنافسة عموما والتحليل المنهجي كأداة فاعلة في التنافسية لتوجيه الإمكانات نحو الهدف.
وزارة التعليم العالي بما لديها من معاهد أبحاث ودراسات في كل من جامعاتها التي تجاوزت الـ 20 يمكن أن تشكل النواة الأساس لتعزيز أداة التحليل المنهجي من خلال الدراسات والبحوث ورفع درجة الوعي حيالها لدى الشرائح المستهدفة إذا قامت بحملة مخططة لتحقيق هذا الهدف, من خلال التواصل مع جميع الجهات الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني للتعريف بتلك الخدمة ماهية وأهمية وقدمتها بداية بتكاليف معقولة حتى تصبح هذه الأداة جزءا لا يتجزأ من ثقافة التشخيص واتخاذ القرارات ومعالجة المشكلات لدى المسؤولين في قطاعات التنمية الثلاثة (الحكومي، الخاص، مؤسسات المجتمع المدني)، ما يولد طلبا عليها بالشكل الذي يشجع القطاع الخاص لتقديمها بشكل احترافي ومهني لينمو سوقها بمرور الزمن عرضا وطلبا، وكلي أمل في وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري أن يوجه مديري جامعاتنا للعمل في هذا الاتجاه.