رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أي رعاية صحية نريد؟

الصحة هي الهاجس الذي يقلق كل حكومة، ووزيرها أكثر الوزراء تحملاً للألم، فمن ناحية ألم اللوم من الناس، ومن أخرى ناحية ألم المرض ومعاناة المواطن عندما لا يكون باليد حيلة. ووزير الصحة الدكتور عبد الله الربيعة قدم إلى الوزارة من غرف العمليات التي عشقها إلى غرفة عمليات مريضها خارج الغرفة يعاني ويتألم ويشتكي كل يوم. إرث كبير ورثه الربيعة ـ كان الله في عونه ـ لكنه على الرغم من ذلك يحمل همة عالية أحسده عليها. قدم الوزير بمشروعه الجديد للرعاية الصحية الشاملة ليعرضه على أصحاب الرأي والإعلاميين في ندوة تميزت “الاقتصادية” ـ كعادتها ـ في تنظيمها.
المشروع الجديد (أو الحلم) هو مشروع رعاية صحية شاملة أو ما يطلق عليه في اقتصاديات الصحة Universal Health Care، وهو مشروع يستهدف تقديم الرعاية الصحية الشاملة للمواطنين من خلال منظومة متكاملة من مراكز الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات المرجعية والمركزية والمدن الطبية. المشروع شبيه بشكل كبير بما يقدم في بريطانيا حالياً، حيث تمول الدولة الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين، وهو شبيه بما يرغب أوباما في تقديمه في الولايات المتحدة بدلاً من نظام الرعاية الصحية المخصص الموجود حالياً، لكن لكل من النظامين مزاياه وعيوبه.
ففي نظام الرعاية الصحية الشاملة تتوافر الخدمة لكل المواطنين ودون تكلفة مباشرة تدفع (عدا التكلفة التي تدفع عن طريق الضريبة)، بينما تتوافر الرعاية الصحية المخصصة من خلال شراء بوليصة التأمين التي تغطي أنواعاً محددة من الرعاية الصحية. يتميز النظام الأول برخص تكلفته وبأنه يشجع الناس على زيارة الطبيب لتلقي الرعاية الصحية، لكنه أيضاً يعاني تدني مستوى الخدمة بالنسبة للعمليات المعقدة وطول الانتظار بالمقارنة بنظام الرعاية المخصص. إضافة إلى ذلك، فإن نظام الرعاية المخصص يتميز بسهولة الدخول إليه في حالة توافر بوليصة التأمين التي تكون عادة مكلفة، لكنه ينطوي على زيادة في تكلفة الخدمة الصحية ككل لأنه يشجع الطبيب على القيام بفحوص قد لا يحتاج إليها المريض بهدف زيادة قيمة الفاتورة.
أغلبية دول العالم تطبق نظام الرعاية الصحية الشاملة وتختلف طريقة تطبيقه من دولة إلى أخرى ففي بريطانيا يتم تقديم خدمة الرعاية الصحية بشكل مجاني من نقطة الدخول الأولى ويتم تمويل خدمات الرعاية الصحية من حصيلة الضريبة. بينما في كندا يتم توفير خدمة الرعاية الصحية بشكل مجاني من الدولة ولكن معظم الخدمات الطبية المساندة كرعاية الأسنان يتم تقديمها من قبل القطاع الخاص بينما يوجد في الولايات المتحدة نظام يعتمد على تقديم الرعاية الصحية من خلال شركات التأمين التي يتم دفع رسومها عادة من العامل ورب العمل، كما يتوافر نظامان آخران هما نظام الرعاية المعان Medicaid لأصحاب الدخول المنخفضة، ونظام الرعاية الخاص بكبار السن Medicare.
وفي سنغافورة يوجد أحد أفضل برامج الرعاية الصحية في العالم – إن لم يكن أفضلها – حيث تم تصميم النظام بناءً على مزيج من الرعاية الصحية الشاملة المقدمة من قبل الحكومة والقطاع الخاص، ويتميز بالكفاءة وانخفاض التكلفة, الأمر الذي انعكس على المؤشرات الديموغرافية، حيث تتميز بأقل معدل للوفاة عند الولادة وأعلى معدل عمر متوقع. في هذا النظام يفرض نظام ادخاري على المواطنين يذهب للرعاية الصحية ويتم تقديم الخدمات في معظمها من القطاع الخاص وبنسبة 66 في المائة من الخدمات المقدمة، بينما يتمثل دور الحكومة في التأكد من قدرة المواطن على تحمل تكاليف العلاج الطبي عن طريق التسعير وتقديم بعض الخدمات الطبية المعانة.
في رأيي أن وزير الصحة لم يقدم مشروعاً مكتملاً حتى الآن (على الأقل من وجهة نظر اقتصادية)، لكنه طرح أول نقاش حقيقي حول نظام الرعاية الصحية الملائم للمملكة. والسبب في قولي أنه لم يقدم مشروعاً جديداً لأنه لم يطرح موضوع التمويل حتى الآن وهو ما يميز أنظمة الرعاية الصحية الشاملة في كل دولة من ناحية اقتصادية الذي ينعكس بشكل مباشر على الجانب الفني للخدمة. لكن الرسالة التي طرحها الوزير توجهه إلى نظام رعاية صحية يقدم بشكل أساسي من قبل الدولة مع تخفيض لنسبة الرعاية الصحية المقدمة من قبل القطاع الخاص. هذا بالطبع يثير تساؤلات كثيرة حول كيفية التمويل على المدى الطويل في ظل عدم وجود نظام ضريبي الذي تمول به أغلبية أنظمة الرعاية الصحية الشاملة في العالم. أحد الخيارات المطروحة والممكنة هو أن يتم ذلك من خلال بوليصة تأمين صحي شاملة وإلزامية يتم دفعها من كل من العامل ورب العمل.
المشروع في حد ذاته مشروع طموح جداً، وإن كانت الرؤية الفنية له واضحة، إلا أن جوانبه الاقتصادية – وهو ما يهمنا كاقتصاديين - لم تكتمل بعد. فجانب التمويل يتضمن جوانب كثيرة يجب مراعاتها عند الاختيار، كالكفاءة والمرونة في تقديم الرعاية الصحية، فنحن لا نريد خدمة رعاية صحية شاملة لكنها تتميز بطول الانتظار للحصول عليها كما يحدث في بريطانيا، كما أننا لا نريد خدمة رعاية صحية مكلفة كالموجودة في الولايات المتحدة، ولا نريد خدمة رعاية صحية متدنية الجودة كالموجودة في الهند. لذلك يجب أن يكون الجانب الاقتصادي لتقديم مشروع الرعاية الصحية الشاملة – الذي أتفق مع الوزير حوله من حيث المبدأ – هو صلب النقاش حالياً ويجب ألا تنفرد وزارة الصحة بتحديده لكيلا تتكرر تجربة الضمان الصحي التعاوني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي