قراءة لما وراء السطور
تحرك المسؤولين الأمريكان في المنطقة من كلينتون وجورج ميتشل, إلى أوباما يمثل أحد مشاهد اللعب على المسرح الدولي, وفي مسرح منطقتنا التي تحاول الولايات المتحدة إبراز دورها, وتأكيد إمساكها بالأوراق والخيوط التي تمكنها من لعب دور البطل في مسرحية هزلية تثير الاشمئزاز, والتقزز ليس لدى العارفين, والنابهين من أبناء المنطقة فحسب, بل ولدى أي فرد وفي أي بقعة من العالم لديه أدنى مستوى من التفكير السليم، ولكن مع الأسف استطاعت الولايات المتحدة خلال العقود الخالية التأثير في بعض المثقفين, والساسة, والمفكرين, وإشعارهم أن مستقبلهم مرهون بانسياقهم وراء سياستها وخدمة مصالحها، حتى وإن كانت هذه المصالح تتعارض مع مصلحة الأمة التي ينتمون إليها, ويعيشون في أحضانها.
وفي كل مرة يأتي أي مسؤول أمريكي يصرح بشكل لا يتعارض مع ما يؤمن به, ويسعى لتحقيقه, ولكن لسبب أو لآخر نظن أو يلتبس علينا إما لعفويتنا وإما لقلة خبرتنا في قراءة ما وراء السطور أو لأي أمر آخر ونصدق العبارات المعسولة, والمصاغة بدقة متناهية حتى وإن تعارضت هذه التصريحات أو نقضت بتصريحات أخرى, أو تم إيضاحها كما حدث, ويحدث بشكل متكرر من أن التصريح الذي صدر من وزيرة الخارجية, أو من مبعوث الرئيس قد أسيء فهمه وحرف عن مضمونه والمقصود منه.
القراءة لما وراء السطور تتطلب خبرة ودراية ليس في المفاهيم واللغة فقط, ولكن عن صاحب من أطلق هذا التصريح وطموحاته, وخلفيته, وثقافته, والوطن الذي يمثله وتوقيت التصريح مكاناً وزماناً، فهذه كلها تؤثر بصورة واضحة في التصريح, وصياغته, والألغاز التي يتضمنها.
في علم النفس يوجد ما يسمى بنظرية الجشطلت أو النظرية الكلية, وهذه النظرية ترى أننا حين ندرك الأشياء ندركها بصورة كلية, ولا ندرك تفاصيل ودقائق ذلك الشيء قبل الإدراك الكلي, ويمكن التمثيل على ذلك بالسيارة, فالفرد حين يرى السيارة يراها بصورتها الكلية ثم ينزل إلى تفاصيلها الدقيقة فيدرك كيف هي أنوارها, وحجم عجلاتها, وشكل صدامها إلخ. وقد وجدت الدراسات المقارنة بين الرجال والنساء فرقاً في الإدراك، حيث ثبت أن النساء يدركن تفاصيل الأشياء, ودقائقها أفضل, وأسرع من الرجال. ولعله من المناسب التأكيد على أن الأشياء, والعناصر المتفرقة ليس لها قيمة بمفردها, ولا تؤدي وظيفتها إلا إذا وضعت مع العناصر الأخرى, وبشكل منتظم, وبذا يأخذ الشيء صورته المتكاملة.
تأملت التصريحات التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في زيارتها الأخيرة التي زارت فيها كلاً من: أبو ظبي, القدس, مصر, والمغرب, وحاولت أن أربط هذه التصريحات بردود الفعل العربية, وكذلك بالواقع على الأرض فألفيت أن هذه التصريحات تتسق مع السياسات الأمريكية الداعمة للبطش, والعدوان الذي تمارسه دولة الكيان الصهيوني منذ قيامها وحتى الآن. في تصريحها في القاهرة قالت كلينتون ليس هناك شك في أذهان الجميع أن التحرك باتجاه دولة فلسطينية ينبغي أن يشمل كل القضايا بما فيها القدس, لكنها تعتقد في الوقت ذاته أن المحادثات هي أسرع الطرق لتحقيق التجميد. وإزاء هذا التصريح, وغيره يمكن أن نسأل التحرك من قبل مَن؟ هل من قبل الفلسطينيين والعرب؟ إن كان هذا هو المقصود فهذا أمر مؤكد, ولا نحتاج إلى كلينتون لتذكيرنا به فهو أحد الأهداف التي يفترض أننا نسعى لتحقيقها, لكنها أرادت أن توهم المستمع أن الولايات المتحدة ضمن الجميع الذين أشارت إليهم, وهذا خلاف الواقع الفعلي الذي تمارسه أمريكا, وخلاف التصريح الذي تبع تصريحها السابق، حيث قالت بعد يومين من حديثها في القاهرة إنها تتفهم حاجة إسرائيل الأمنية للمستوطنات, وهذا هو مربط الفرس الذي يؤكد ثبات الدعم الأمريكي لإسرائيل في كل الظروف, وفي كل الأحوال.
إذا كانت المستوطنات تمثل حاجة أمنية لإسرائيل ـ كما ترى كلينتون ـ فهذا يعني أن أمريكا تدعم, وتقف مع إسرائيل بشأن المستوطنات, ولا يمكن التفكير أو المطالبة بإزالتها طالما أنها بهذه الأهمية, وعليه فإن المفهوم المطاطي للأمن الإسرائيلي يمكن أن يمتد لأقصى نقطة في العالم العـربي والعالم الإسـلامي, إذ ما الذي يمنع من أن تكون حدود العراق أو باكستان شرقاً, أو المغرب غرباً هي ما يحقق الأمن لإسرائيل طالماً أن هذا هو التفكير الأمريكي؟! وعليه فإن التفهم الأمريكي للأمن الإسرائيلي يتحرك ويمتد بتحرك وتمدد الاستعمار والبناء على الأرض العربية أياً كان اتجاهه, ومهما كانت مساحته.
في منتدى المستقبل في الرباط أطلقت كلينتون مجموعة مبادرات بشأن المنطقة، منها عقد اجتماع بشأن حوار الأديان, ومشروع المجتمع المدني, وعقد قمة في واشنطن تجمع مبتكرين مسلمين, وأرباب عمل أمريكيين, ولا أدري هل تتذكر كلينتون أن الملك عبد الله قد سبقها لحوار الأديان, أم أن ذاكرتها لا تسعفها في ذلك وتود أن تسجل لنفسها ولوطنها نقاطاً إيجابية تعوض عن النقاط السلبية التي تحصدها أمريكا في العراق, وأفغانستان, والسودان, وفي فلسطين من قتل وتدمير, ودفاع عن الباطل, والظلم والعدوان, أم أن الهدف خلط الأوراق وصرف النظر عن الموضوع الفلسطيني, والتوسع اليهودي في فلسطين, وإيهام العرب أن أمريكا تسعى لصالحهم وصالح الإنسانية، خاصة في طرح حوار الأديان, ومشروع المجتمع المدني, وقمة المبتكرين؟!
يكفي أن نتذكر شعارات الإدارات الأمريكية السابقة, وشعارات أوباما، التي تراجع عنها قبل وصول ذبذباتها إلى مسامع الناس.