ضجيج اقتصاد المعرفة
في العالم العربي .. ما أكثر ما احتفت أدبياتنا وصحفنا ومنتدياتنا الاقتصادية بمصطلح (اقتصاد المعرفة) وكأنه فتح جديد أو أنه بات تعويذة عصرنا وأعجوبته. ومع أنني لست متخصصا في الاقتصاد، إلا أنني كلما قرأت عن (اقتصاد المعرفة) ازدادت قناعتي بأن أحدا «ما» جعل الحبة قبة، وإلا فإن هذا المصطلح لا يعدو كونه واحدا من تلك الصياغات الجديدة التي يزفها الإعلام بين الحين والآخر، فنقع تحت حبائل إغرائها اللفظي الذي لا يترك بين أيدينا (بعد التمحيص) سوى الغواية اللغوية نفتتن بها.
بدأت حكايته في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي مع نشر الدراسة الشهيرة للاقتصادي الأمريكي روبرت سولو حول النمو الاقتصادي ودور التطور التقني والمعرفي كأحد المحددات الرئيسة لوتائر ذلك النمو.
وقد أثار الجانب المتعلق بالتطور التقني والمعرفي مناقشات متشعبة بين الاقتصاديين امتدت لأربعة عقود تناولت ماهية التطور التقني والمعرفي نفسه، ومصادره، والكيفية التي يسهم بها في تسريع النمو الاقتصادي. وكان من أبرز المشاركين في تلك المناقشات اقتصاديون من أمثال روبرت لوكاش من جامعة شيكاغو، وبول رومر من جامعة كاليفورنيا – بيركلي.
ولكن المتتبع لتطور الجدل الفكري الذي دار حول هذه الموضوعات لم يكن ليتصور أن يخرج ذلك الجدل عن إطاره المنطقي والخاص بتقييم الدور المتنامي للمعارف والتقنيات الحديثة في دينامية النمو الاقتصادي في الاقتصاد المعاصر إلى ما آل إليه الحال الآن من حديث عن اقتصاد من نوع جديد برز إلى الوجود نتيجة لتنامي دور المعارف والتقنيات الحديثة في فعالياته المختلفة، فالذي حدث هو أنه بدلا عن البقاء في إطار التطور الكمي الحادث في الاقتصاد المعاصر المعروفة خصائصه للجميع أصبح الحديث عن تحول نوعي أفضى إلى كائن جديد اسمه اقتصاد المعرفة.
ورغم أننا نطالع أحيانا تعريفات معقولة عنه مثل: أن اقتصاد المعرفة هو الاقتصاد الذي أصبحت فيه المعرفة بكل تجلياتها تشكل النسبة الأكبر في قيمة المنتجات وليس المواد، إلا أننا في أحيان كثيرة عند قراءة ما يكتب ينتابنا الشعور بأن الحديث يدور حول اقتصاد لم نعهده من قبل.
والواقع أن الاقتصاد، منذ خرج الإنسان من الكهف، هو بالأساس نتاج ثروات طبيعية وعمل (معرفة، جهد عضلي، أو تقنية) ورأس مال ووقت... ولا يخرج اقتصاد المعرفة بدوره عن هذه المحددات، والنقلة التي حدثت للاقتصاد هي فقط في تسارع عملية الإنتاج من جراء تطور الوعي البشري (المعرفة) الذي اكتشف أو ابتكر أدوات وأساليب جديدة، وإلا فإن المعرفة كانت حاضرة في الاقتصاد الزراعي، الصناعي، التجاري، التقني، الهندسي، الرياضي، السياسي.. إلخ، وحاضرة في ميراث الفكر الاقتصادي يساره ويمينه، من آدم سميث وريكاردو وماركس إلى ألفرد مارشال ومينراد كينز وزمرة الاقتصاديين المعاصرين، بل كانت المعرفة هي المحفز منذ فجر التاريخ وعبر كل الحضارات وحتى يومنا هذا وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكنها مع ذلك، لم تتحول إلى (سلعة) فلا وجود لسلعة في السوق اسمها (المعرفة)، لأن المعرفة كانت وستظل وسيلة، جاءت كناتج طبيعي لعلاقة الإنسان بالآلة ومحيطه، إنما غير قابلة للخضوع لقانون المبادلة في السوق، فهي لا يتم فقدها عند الطرف الذي تؤخذ منه لحساب الطرف الآخر كما في التبادل المعتاد للسلع ، وليبقى دورها الأبدي إحداث التغير في خصائص السلع وليس في جوهرها فبدلا من الحديد في السيارات مثلا حل الفايبر وبدلا من وسيلة نقل تسير على الأرض حلقت في الفضاء، وبدلا من الأحجام الهائلة للكمبيوتر والقدرة المحدودة له انكمش حجمه وبات مذهل القدرات وقل مثل ذلك في الروبوتات وصناعات النانو، ما يعني أن اقتصاد المعرفة مجرد إضافة مجازية فقط إلى الاقتصاد وليس حفيداً من أحفاده، كالزراعي، التجاري، والصناعي.. إلخ.
وهكذا .. لا يبقى شيء جديد في (اقتصاد المعرفة) إلا الكلمة وإعرابها (مضاف ومضاف إليه!!).. تغير في الشكل أو النوع أو الدرجة وليس في الماهية، وليظل الاقتصاد مجرد (مفرد بصيغة الجمع)، تتسع مظلته لما كان وما هو كائن وما سيكون، لكنه لا يقبل الارتهان إلى مكون واحد مسيطر مهما كان ماديا أو إجرائيا أو ذهنيا، سواء المعرفة أو غيرها.
وإنها لمفارقة عجيبة أن نبرة الحديث عن اقتصاد المعرفة في عالمنا العربي أعلى مما هي عليه في الدول المتقدمة، مع أنه عالم لم يحقق بعد إنجازا معتبرا لا في الاقتصاد الزراعي، ولا في الاقتصاد الصناعي ولا في الاقتصاد التجاري يكفل له ولو حتى الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي .. وكل معرفة وعالمنا العربي بخير!!