النملة والمخزون الغذائي الاستراتيجي
ارتفعت أسعار الرز بشكل متسارع في الأسواق العالمية ومثلها في أسواقنا المحلية عام 2008م بشكل أثار قلق المستهلكين حتى وقعت الأزمة المالية العالمية التي رجعت بالأسعار إلى معدلات معقولة. ارتفاع الرز وغيره من المواد الغذائية عامي 2007 و2008م جعل حكومتنا, وبسرعة كبيرة, تصدر حزمة من القرارات في أيار (مايو) 2008م لتخفيف العبء الذي يتحمّله المواطن جراء الارتفاع الكبير في أسعار المواد التموينية والسلع والمنتجات الزراعية والحيوانية.
واشتملت القرارات على فقرة تقول: (على وزارة التجارة والصناعة التنسيق مع الجهات المعنية للبحث في تخصيص أراض لإنشاء مستودعات عن طريق القطاع الخاص لخزن المواد الغذائية التموينية)، وفقرة تقول: (على وزارتي الزراعة والتجارة والصناعة إعداد دراسة متكاملة لتحديد حاجات المملكة المستقبلية من المنتجات الغذائية التموينية، وذلك من خلال تكليف متخصصين في القطاعين العام والخاص بدراسة موضوع توفير الأمن الغذائي للمملكة، وبناء المخزون الاستراتيجي من المنتجات الغذائية التموينية، ودعم البنية التحتية اللازمة لذلك، ودرس الخيارات المتاحة الأخرى. ومن ثم تعد الوزارتان تقريراً شاملاً ومفصلاً عن ذلك يرفع إلى مجلس الوزراء خلال مدة لا تتجاوز شهرين من تاريخ نفاذ هذا القرار).
اليوم نحن على أعتاب نهاية عام 2009م ولم نسمع أي جهد يشير إلى تطورات المخزون الغذائي الاستراتيجي, كما لم نقرأ أي خبر يفيد بأن دراسة أجريت وتوصيات قدمت وقرارات اتخذت أو ستتخذ في هذا الشأن لتكوين مخزون غذائي استراتيجي عام 2010 على سبيل المثال أو بعد، وكلنا يعلم أهمية المخزون الاستراتيجي الغذائي في التصدي للحالات والفجوات الطارئة سواء كانت ناتجة عن أسباب موضوعية أدت لها ( ارتفاع الطلب أو انخفاض الإنتاج العالمي) أو حتى إذا كانت بفعل فاعل (مضاربات مالية، تورط مؤسسات احتكارية ، استغلال من قبل متاجرين لا يلتزمون بأدنى القيم والمثل والمبادئ الأخلاقية لأي فرصة سانحة للمتاجرة الرخيصة والمتلاعبة بمعيشة الناس وقوتهم الرئيس مثل الرز والقمح وغيرهما).
أكثر من مقالة وجهتها إلى الإخوة المسؤولين كما وجه مثلها غيري من الإخوة الكتاب بشأن ضرورة تطوير موقفنا من الزمن الذي ما زال الكثير منا يعتقد بأنه كفيل بحل المشكلات إذا تركنا الأمور على عواهنها رغم التوجيهات السامية للتحرك السريع لحل المشكلات التي تعني المواطن، ومع الأسف الشديد ورغم انتشار مقولة (الأسرع يأكل الأبطأ) وترسخ مفهومها ما زال موقف الكثير من المسؤولين من الوقت موقفا سلبيا لا يتناسب ومدى أهميته وخطورته وضرورة التعامل معه بجدية أكبر.
يدرك الراكضون في مضمار الركض أن ثانية أو ثانيتين بينه وبين الميدالية الذهبية وبينه وبين تحقيق رقم قياسي جديد وهو ما يجعلهم يقيسون سرعتهم بالثانية فهل يدرك المسؤولون عن الأمن الغذائي لدينا أهمية الوقت في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيقه لتمكين المواطن والمقيم في بلادنا من الحصول على الغذاء الصحي المستدام والمستطاع سعريا؟ لا أعلم إجابة دقيقة لهذا السؤال ولكن بكل تأكيد مرور أكثر من عام ونصف على قرارات مجلس الوزراء المعنية بالأمن الغذائي دون أن يرى مشروع المخزون الغذائي الاستراتيجي بصيص النور يوحي بأن الوقت مفتوح ولا سقف له وأن الأزمة المالية العالمية التي ما زلنا نعيشها وتتفاوت الآراء بشأنها وبشأن آثارها في معدلات التضخم بعيدة عنا كل البعد وإن كنا لا نأكل مما نزرع رغم أن هناك من لا يزال يطرح احتمالية حدوث تضخم كبير في الأسعار كالذي كان قبل الأزمة المالية مباشرة أو أشد.
المخزون الغذائي الاستراتيجي مهم لأنه يمكّن الحكومة من ضبط الأسعار وعدم الوقوع تحت رحمة الدول المصدرة ورحمة التجار إذ يمكن المخزون الغذائي الاستراتيجي الحكومة من القدرة على المناورة والقدرة على امتصاص الارتفاعات المفاجئة والمؤقتة لأسعار السلع الغذائية الرئيسة كما يمكنها من الضغط على التجار الجشعين لفك الاحتكارات التي يقومون بها لتحقيق أرباح عالية في أوقات قصيرة على حساب الوطن والمواطن. وغياب المخزون, وبكل تأكيد, يجعل الجميع تحت رحمة الظروف دون أدنى قدرة على المناورة سوى دعم الأسعار وهو حل عالي التكلفة وذو آثار سلبية متعددة وعادة لا يستفيد منه المستهلك المستهدف قدر ما يستفيد منه الآخرون (المنتج، السماسرة، التجار وغيرهم).
وإذا كان الأمر كذلك لماذا لا تتحرك وزارة التجارة المطلوب منها حسب نص القرار أن تنسق مع الجهات المعنية للبحث في تخصيص أراض لإنشاء مستودعات عن طريق القطاع الخاص لخزن المواد الغذائية التموينية؟ ولماذا لا يتحرك مجلس الغرف التجارية والصناعية الذي يجب أن يلعب دورا كبيرا في منع الاحتكارات؟ ولماذا لا تتحرك جمعية حماية المستهلك المعنية بحماية المستهلك من جشع بعض المصنعين والتجار لحث وزارة التجارة للقيام بما أنيط بها بشأن توفير المخزون الغذائي الاستراتيجي؟ هل هناك تراخ متعمد أم أن السبب ثقافتنا حيال الزمن والظرف؟
أعجزنا أن نجاري النملة في توفير مخزون غذائي استراتيجي؟ لا أعتقد أننا عاجزون عن ذلك, ولكن كعادتنا نتفاعل ونحن في عين أي أزمة كانت, ونتراخى عند زوالها وننسى ما قررنا، نعم فقد قررنا أثناء أزمة الغذاء أننا سنفعل وسنفعل لنقي أنفسنا من هذه الأزمة والتي تليها وعندما حُلت الأزمة جزئيا, لأسباب لا دخل لنا بها, نسينا ما قررنا رغم علمنا الأكيد أن مستقبل الأمن الغذائي يعتمد بشكل كبير على الإدارة الحكيمة التي تحسن استغلال موضوع العرض والطلب على المنتجات الغذائية.