رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


من يسرق الأرض يسرق التراث والثقافة

لا يمر يوم إلا ونقرأ في الصحافة أو نسمع في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة خبرا يفيد بأن دولة عربية استعادت جزءا من تراثها المسروق, أو أنها تسعى إلى استعادته من تلك الدولة, حيث يوجد في متحف وطني، أو في حوزة شخص من الأشخاص. ووجدت ظاهرة سرقة التراث من البلدان العربية والإسلامية في حقبة الاستعمار الغربي لهذه الأوطان ومع انتشار المستشرقين، كما حدثت أثناء افتقاد بعض البلدان العربية حكومات مركزية تعنى بالتراث والأمن، وفي مناخات كهذه يكون من السهل الاعتداء على التراث وسرقته وتهريبه خارج الوطن، كما أن ضعف الوعي بأهمية التراث وقيمته في حياة الأمم كان أحد الأسباب وراء سهولة تهريب هذه الأشياء، وقد تكون الحاجة إلى المال مع الجهل بقيمة هذه الأشياء التاريخية والمعنوية والحضارية سببا مهما في تفريط من يملكون العناصر التراثية وبيعها بأثمان بخسة.
ولا غرابة أن نسمع أن آلاف القطع الأثرية والوثائق المهمة في حياة الأمة وتاريخها وثقافتها تقبع الآن في متاحف ومكتبات كثير من الدول الأوروبية التي بعثت رجالها في غفلة من التاريخ وسرقت هذه الأشياء التي لا تقدر بثمن. في الأسبوع الماضي نقلت إحدى الفضائيات خبراً مفاده أن اللبنانيين قاموا بإعداد طبق حمص كبير رداً على طبق الحمص الذي أعده الإسرائيليون وقدموه للعالم على أساس أنه طبق إسرائيلي.
هيئة حقوق الإنسان الدولية أوردت من جانبها تقريراً مفاده أن الفرد الإسرائيلي نصيبه من المياه عشرة أضعاف الفلسطيني, واستشهدت بأن بيوت الإسرائيليين فيها مسابح وفيها حدائق بينما الفلسطيني لا يجد ما يمكن أن يشرب منه إلا بشق النفس, ومثل هذا التقرير جميل لكن هيئة حقوق الإنسان نسيت أن اليهود سرقوا الأرض بكاملها, وطردوا أهلها وشردوهم ورموهم في العراء, وحري بمن يسرق الأرض أن يسرق الماء ويسرق التراث والثقافة.
السرقة كهذه سواء لمادة ذات قيمة تاريخية أو لماء أو لطبق ليست مجرد تصرف فردي تمليه ظروف معينة تجبر صاحبها على فعل ذلك كأن يكون جائعاً ويسرق ما يشبعه, بل إن السرقة في بعض حالاتها هي ثقافة لها فنونها وطرقها وأساليبها, ولها مبرراتها التي يعلل بها أصحابها سلوكهم وتصرفاتهم, وينفذونها وفق طرق وأساليب ممنهجة. حين غزت أمريكا العراق واحتلته, وبثت الفوضى في أركانه, رأى العالم بأكمله عملية السرقة والسطو على المتاحف والوثائق والتراثيات وترحيلها خارج العراق, ذلك أن بلداً مثل العراق يختزن كثيرا من الآثار والتحف التي لا يمكن أن يوجد لها مثيل في أنحاء العالم أجمع. وهذا مثال واضح على أن نهب متاحف العراق وتفريغها من مقتنياتها ليست مجرد تصرف فردي بل عمل منظم وممنهج له أبعاد ثقافية وسياسية.
في سنوات الدراسة قمت بزيارة لمدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا, وفي أحد الشوارع رأيت مطعماً تظهر عليه ملامح المطاعم الشرقية واقتربت منه وإذا بلوحته كتب عليها المطعم الإسرائيلي تأملت في الأطعمة الموجودة في قائمة الأطعمة وإذا بها حمص, فلافل, تبولة, متبل, بابا غنوج, بقلاوة, وغيرها من الأكلات التي يعرف القاصي والداني أنها أكلات شامية. الجرأة من قبل اليهود في نسبة الأشياء الجميلة إلى أنفسهم ليست بالأمر الجديد, وإنما طريقة تفكير اعتادوها, وأسلوب حياة ملازم لهم, فإبداعات العرب والمسلمين في الأندلس نسبوها إلى أنفسهم ولمن كانوا يعيشون في كنف الدولة الإسلامية في الأندلس من اليهود مثل ابن ميمون وغيره ممن أبرزتهم ومكنتهم الحضارة الإسلامية من المعرفة والارتقاء بمستوى ثقافتهم. ولذا لا غرابة أن نجد نسبة النظريات العلمية ووسائل وأساليب الإنتاج المتقدمة, وأساليب الري والحدائق والنوافير في الأندلس إلى اليهود أو في الوقت الراهن حيث اعتادوا هذه الممارسات, وصدق الباري حين قال في حقهم «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» فالاعتداء ليس على الأرض فقط بل على التراث, العلم, الثقافة, والمعرفة, ومن يسرق الأرض ويشرد أهلها لا يستغرب منه أن يسرق غيرها.
الملكية الفكرية حق لا بد من احترامه, والمحافظة عليه, والتراث بجميع أنواعه يدخل ضمن هذه الملكية لكن الغرب بطريقة تفكيره المشبعة بالأنانية والتمركز حول الذات, ينسى هذا الحق رغم أن متاحفه مليئة بإنتاج الغير, الغرب يعاقب على استخدام البرامج الحاسوبية دون ترخيص من الشركة المنتجة, وكذلك الكتب, وهذا من حقه, لكن من حقنا أن ندافع عن حقوقنا ونعاقب عليها المسؤولين الغربيين الذين تحتضن متاحفهم ومكتباتهم حقوقنا التي سرقت في سنوات الغفلة والجهل.
هذه الأخبار وغيرها كثير لا يمكن فصلها عن بعضها بل لا بد من تناولها من خلال العقلية الغربية التي اعتادت سرقة الثروات من معادن، بترول، غابات, بل دول, ذلك أن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، الذي يعرف بالمبدأ الميكافيللي, هو إنتاج غربي يبرر للفرد أن يقدم على أي عمل, وأن يستخدم أي وسيلة طالما الهدف تحقيق مكاسب من أي شيء كان. وهذه ثقافة شكلت عقول أبناء المجتمعات الغربية وجعلتهم لا يفكرون إلا في ذواتهم ومصالحهم, وماعدا ذلك لا قيمة له ولا حساب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي