رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


القراءة .. وقربة الأستاذ باجبير

زميلي ومواطني في هذا الوطن وفي هذه الصفحة الأستاذ عبد الله باجبير، تحدث في زاويته يوم السبت عن أزمة الكتاب والقراءة على أثر اجتماعات منتدى الفكر العربي في بيروت، وما أسفر عنه من مؤشرات أكدت أن العربي لا يخصص أكثر من 12 دقيقة للقراءة في السنة مقابل 12 ساعة للقارئ الغربي، وأن عنوانا واحدا يصدر في بريطانيا لكل 500 قارئ، فيما يصدر عنوان واحد لكل 12 ألف قارئ في العالم العربي.. وأوافقه أنه رقم أشد فداحة.
لكن.. أيها العزيز، عبد الله، ما بالك تحرف الاتجاه وتلقي باللائمة على (العربي الذي يضيع وقته في هرش شعره وطرقعة أصابعه وشرب الشيشة والتفرج على المسلسلات العبيطة) وكأنه هو من اختار ذلك؟ بل لا أوافقك على الإطلاق أننا ننفخ في قربة مشقوقة (أو مقطوعة).. بل الواقع أن المؤسسات الثقافية العربية العامة بالذات لا تكاد تزم شفاهها لتنفخ، فتنمية الثقافة، (والقراءة آليتها الجوهرية) ظلت ملحقا هامشيا في استراتيجيات التنمية العربية، فأنت لا ترى ولا تسمع ولا تشاهد برامج ومشاريع ثقافية كبرى مستدامة أو حتى غير مستدامة، إنما فقط فزعات مؤقتة أو نخوات موسمية في إطار مناسبة سرعان ما تخبو.
القارئ العربي، أخي عبد الله، تم إغواؤه بالاستهلاك والتثاؤب بتركه عاريا من الحياة الثقافية، التربة الجذابة، فقد أقصيت عنه مكتبات مدارس العرب لتصبح مخازن للغبار والعثة وكراكيب الأثاث وشيئا مما تركه فيها أجدادنا من كتب جمعوها في أزمنة شهوة الإقبال على العلم في بدايات منتصف القرن الماضي، كما تمت إقالة الصحف الحائطية والأنشطة اللا صفية وركل فعاليات منصات المسارح المدرسية التي كانت تقام في نهايات الأسابيع وفي نهايات فصول السنة الدراسية وأحيانا في طوابير الصباح. هكذا حيل بين الثقافة وبين أجيال تعاقبت بجانب تضافر أدوات الخرازة والنجارة والحدادة البليدة لتشكيل نمط من الدرس لا يسمح بالترحال ذهنيا خارج حدود الكتاب ولا بفتح الأذن والعقل إلا على ما يلقنه المعلم دون اقتراف خطيئة السؤال أو إبداء الرأي، فقد بات النقاش عيبا والحوار شبيهه، خصوصا وقد ترك لذهنية التكفير والجهاد وخطاب الصحوة أن تركض على أهوائها منذ منتصف السبعينيات.
فلا غرابة بعد ذلك.. أستاذ عبد الله.. أن تنشف القربة وتنشق، (إن كنت مصراً على أنها مشقوقة!!) أما أنا فأنحاز إلى أن الشق هو في الاتجاه الآخر.. أي في كساد التنمية العربية ثقافيا، حيث كرست المنجز المادي والاستهلاكي والعابر على حساب المنجز المعنوي والروحي والثراء الوجداني، فغادر الاهتمام بالقراءة والكتاب والثقافة والفن والإبداع ذهينات شباب العرب وفتيانهم (بنين وبنات) لأن أحدا لم يضع بين أيديهم سلاسل كتب عن أوطانهم، علمائهم، تاريخهم، شعرائهم، كتابهم، رموزهم التاريخية، آثارهم، ولم تترجم لهم ثقافات العالم، ولم يؤاخ بينهم وبين التعبير الحر وما يأخذ بعضهم إلى بعض في ملتقيات ومنتديات وجمعيات مشتركة، ولم يزفوا للعالم أو يزف العالم لهم في علاقات ثقافية متبادلة.. ولم ترصد لهم الجوائز التشجيعية الدائمة ولم توفر لهم صروح التنمية الثقافية من مسارح ودور سينما ومؤسسات إنتاج وأكاديميات للفنون مدعومة مشجعة بثبات ورسوخ. بل ظلت (الخطة الشاملة للثقافة العربية) التي أعدت في (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) وصادق عليها وزراء الثقافة العرب في مؤتمرهم الخامس في تونس 1985 على الأرفف وفي الأدراج نهبا للإهمال منذ ربع قرن.
نعم.. ثمة شيء من الثقافة في هذا البلد العربي أو ذاك، لكنه، أستاذ عبد الله، كما أسلفت متروك للنخوات الموسمية والفزعات الوقتية الذي إما أن يأتي نتاجه زهيد وإما يظل حبيس سين وسوف!!
أفبعد هذا يصح أن نقول إننا ننفخ في قربة مشقوقة؟ أليس في ذلك إجحاف بحق المواطن العربي حيثما كان؟ أليست هذه إدانة، ربما جاءت من باب فش الخلق؟! أجزم أن الأمر كذلك.. وإلا لما ظللت مثابرا تكتب، تنادي، تحاول على مدى عقود ولم تيأس، فما بالك اليوم قانط تضع اللوم على من لا يلام؟ هل تريد أن تعيدنا إلى قول جدنا دعبل الخزاعي؟:
(إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا)
هوِّن عليك أيها العزيز.. وانظر كيف يتقاطر العرب زرافات ووحدانا حين تقام معارض الكتب؟ كيف يعلو حديث الثقافة حين يقام نشاط مميز أو يصدر كتاب قيم أو يُعرض فيلم مهم؟ وكيف تعيد مجالس طق الحنك للدماغ اعتباره، ولا يبقى للقربة المشقوقة وجود إلا في المثل نفسه، أما المضروب بهم فلا!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي