الاستراتيجية الصحية.. إصلاح شامل وتطوير متكامل (4)

إن من أهم الأولويات أن نتساءل: كيف يمكن ضبط الأداء ورفع مستوى الكفاءة ونشر الخدمات في تواز وغير ذلك من الأهداف البراقة، إذا لم يكن هناك إنفاق على الدراسات والدورات وورش العمل وإلقاء المحاضرات والزيارات الخارجية وحضور الندوات والمؤتمرات... إلخ؟ أي بمعنى آخر الصرف بسخاء «مقنن» على الجودة. أعتقد أن عوامل نجاح هذا الأساس ما زالت في أيدي عديد من الجهات ليست الصحية فقط. من ناحية أخرى بعض الجهات المقدمة للخدمات الصحية تتقدم وزارة الصحة نوعيا إذا ما قيمنا السياسات والإجراءات المعمول بها ومستوى جودة التنفيذ في عدد وحجم المرافق المتاحة لتقديم الخدمة. أعتقد أن المجلس سيهتم بهذا الأمر كثيرا ولا شك أن المجالس الاستشارية ستكون ملاذا للوزارة، ولكن إلى متى؟ فالتغيير الإداري قد يعود فيحصر العمل في شخص أو اثنين فنعود إلى سابق العهد. لا شك أن القارئ لما جاء به الأساس الاستراتيجي الثاني عشر سيحاول إعادة قراءة الأساس الحادي عشر ومن ثم يراوح بينهما، ولكن قد يكون للمعد فلسفة معينة في ذلك والله أعلم. عموما أرى أن موضوعا مثل هذا اختزل في أقل من 100 كلمة مع أن «حماية المرضى» و»حفظ حقوق المرضى»، أكبر التحديات التي تواجه الأنظمة الصحية في العالم حاليا. وكلنا نأمل أن يؤسس في المملكة هذا المفهوم. إن بوضع منطوق هذا الأساس أمام ما قصد في الأساس الثالث فإن وصولنا لتحقيق حقوق الطرفين يعني تحديد سمك «الشعرة» التي بينهما. فاستنساخ مثل هذا التنظيم أمر سهل لأن دولا مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأستراليا بخلاف كندا وأمريكا لديها ما تعتمد عليه وتتعاون من أجله مع مثيلاتها لتطبيقه، فهل سنهتم بذلك بناء على المعايير والمقاييس المحلية والعالمية؟
الآن وبعد القراءة يمكن استنتاج عديد من النقاط ولكن سأذكر بعضها للأهمية: (1) بالنسبة للأساس الثاني لا بد من أن يتم تحديد ما إذا كانت التقنية هي الوسيلة أم الهدف فالرسالة غير واضحة ولكن تنفيذيا يمكن تغليب مفهوم الوسيلة والغاية فبالطبع استخدامها لأنها وسيلة ليس كأنها الغاية التي نريد أن نصل إليها. (2) في الآلية الأولى من السياسة الثانية للأساس الاستراتيجي الرابع، سيكون اختيار ذو الكفاءة والمتخصصين، لرفع مستوى الأداء بناء على معايير، مسألة فيها تحد مع الذات نظرا لما تعودنا عليه من الاعتماد على الثقة والقرابة أو حجم التوصية عند اختيار الموظف، فكيف سنطبق هذا المطلب النظري الجميل؟ (3) إن شمول الاستراتيجية على آليات للتنفيذ لا تجعل المنفذ يتحرك بمرونة مظهرا إبداعاته في التنفيذ بالأساليب المتاحة والمناسبة لكل وقت وظرف في سبيل تحقيق الهدف الأساس. كما أن المقيم وصوت المواطن (مجلس الشورى) سيكون مقيدا لما ذكر فيها وسيصعب على جميع الأطراف التحرك في أسس غير متوازنة في طرح السياسات والآليات. (4) مع كل التفاصيل في بعض الأسس إلا أن الاستراتيجية خلت من «الدواء» و»الرعاية الصيدلية» تحت أساس أو سياسة يمكن أن نطلق عليها Medication Management، فهل هيئة الغذاء والدواء معنية فقط بالغذاء وسلامته؟ أليست معنية بالشأن الصحي ولها علاقة أفقية وعمودية مع مجلس الخدمات الصحية ووزارة الصحة ووزارة الزراعة ووزارة الشؤون البلدية والقروية ووزارة التجارة؟ هل استبعد الدواء لأن هناك استراتيجية خاصة بالدواء ستصدر بعد فترة؟ أليس الدواء في صناعته وتحويله، وتصديره وتوريده، وتوزيعه وتصنيفه، وتخزينه وتداوله، أو بيعه وتسعيره، ووصفه وتناوله وتحديد جرعاته، وفحصه واختباره وصلاحيته، قضية تحتاج إلى تنظيم كبير وعلى كل المستويات؟ ما دور التقنية هنا؟ هل سيُكتفي بإدراجه تحت «حقوق المرضى» و»عدالة الوصول للخدمة» و»الأخطاء الطبية» و»كفاية الأداء» و»جودة الخدمات» و»معايير العلاج»... إلخ؟ إن حجما اقتصاديا يكاد يصل إلى عشرة مليارات ريال سنويا خلال عامين، لا يمكن أن يكون على هامش الاهتمامات الصحية في المملكة، ولا بد أن يوضح مستقبله بتكثيف الدراسات وقراءة الملفات السابقة والحالية، وغير ذلك من الإجراءات. (5) أما الاهتمام بالنشر والتوزيع للتقارير السنوية والتحليلات الدورية للخدمات الصحية، فالمكتبات العامة والمكتبات الجامعية إضافة إلى المكتبات المتخصصة في المرافق الصحية نفسها، متعطشة للإسهام بطريقة مباشرة في التعليم الصحي الأكاديمي، والتعليم والتدريب المستمر. إضافة إلى ذلك تعضيد دور الأبحاث والدراسات الوطنية والأكاديمية، من ناحية أخرى سيُغَلِّب ذلك اهتمامنا بالكيف في مرحلة من المراحل، بجانب «الكم»، وذلك لتوضيح الصورة وإعداد القرارات المناسبة تبعا لأطر الاستراتيجية وخططها التنفيذية حسبما صدرت ونشرت. (6) مثل هذه الاستراتيجية ستبني موازنات ذات مردود عال، وستكون القيمة المضافة للقطاع محفزة لتطوير آلية التخطيط والتنفيذ. هذا الاهتمام بـ «اقتصاديات الصحة» سيدفع بالخدمة نفسها إلى التغير الايجابي، ومعالجة العلل الصحية في المجتمع في آن واحد. كما يُعوّد الجهات على إعداد الميزانيات بشكل أكثر دقة وتوجيه نحو الأولويات, وسيغير بعض المفاهيم الإدارية لهيكلة القطاع، وسيحفز المستثمرين صغارا وكبارا على تطوير توظيفهم لاستثماراتهم بما يجعلهم يحققون أرباحهم ويقومون في الوقت نفسه بمسؤولياتهم الاجتماعية.
هنا يمكن أن يقال: إذا ما التزمت كل جهة (حكومية كانت أم خاصة أو خيرية) بما يتم الاتفاق على أن يكون مسؤوليتها وتنجزه خلال المدة المفترض تقديمه للتقييم وقبلت ما يجب أن يكون تطويرا شاملا، فإن في عام 2020م سنرى نتيجة التراكم المعرفي الذي توافر لدى المؤسسات المعنية. وسنرى نتيجة العمل بأسلوب علمي، الذي سيجعل المملكة تتربع بنظامها الصحي على قمة أفضل النظم الصحية في العالم لاستفادتها من الموارد البشرية والمالية والمكانية بأسلوب علمي وواقعي ولتؤصَّل لمرجعية في الشأن الصحي ـ بإذن الله.
عموما، الجزء الأسهل قد صدر، إلا أن الجزء الأهم والأكبر والأصعب والمحفوف بالمعوقات والمليء بالتحديات؛ سيواجه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المقبلة والمفاهيم الصحية والإدارية أيضا عند بداية التنفيذ الفعلي. لذلك اسأل الله أن يعيننا على أنفسنا فنحقق ما تتمناه منا أجيالنا من بعدنا فنكون قد أسسنا لهم حياة صحية كريمة، ومجتمعا يشد عضد بعضه بعضا، وعلى الله التكلان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي