رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ماذا حدث لمهنة الاقتصاد؟

قد نقول إن الأزمات الاقتصادية لها دور كبير في تشكيل رؤية ونظرة علماء الاقتصاد، أو قد يقول آخر يلعب علماء الاقتصاد دوراً في تشكيل الأزمات الاقتصادية، بما يعني أنها كمشكلة من أتى قبل الآخر: الدجاجة أم البيضة. لكن المتابع للنقاش الحاد بين علماء الاقتصاد الذي انفجر إبان الأزمة الاقتصادية الحالية، يمكن أن يقدر دور الأزمات في تشكيل الفكر الاقتصادي. فمن جهة يناضل أصحاب مدرسة شيكاغو للدفاع عن مبادئ مدرستهم الاقتصادية التي قادت الفكر الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم منذ السبعينيات الميلادية، بينما يجد الكينزيون فرصة للنيل من خصومهم وإثبات أن التدخل الحكومي، لا لتقويض الحرية، ولكن لتعديل مسار الاقتصاد والحد من الآثار السلبية على المدى القصير، له ما يبرره اقتصادياً وعملياً.
وإلى ما قبل الأزمة بقليل، بلغت ثقة علماء مدرسة شيكاغو بفكرهم درجة لم يبلغها غيرهم، حيث أشار أوليفير بلانشارد في عام 2007 عندما كان أستاذاً للاقتصاد في جامعة إم آي تي أن الاقتصاد الكلي Macroeconomics بلغ درجة عالية من الكمال والتقارب في الرؤى، بينما أشار روبرت لوكاس الاقتصادي المعروف في جامعة شيكاغو في عام 2003 أن (مشكلة أساسية تتعلق بمنع الكساد الاقتصادية تم حلها) بما يعني أن النماذج الحالية للاقتصاد الكلي وتطبيقاتها قادرة بشكل كبير جداً على منع حدوث مماثل لما حدث في عام 1929م. بالطبع هذه الثقة المفرطة فيما توصل إليه علماء الاقتصاد الكلي لها ما يفسرها على الأقل من ناحية نفسية، وهذا ما دعا البروفيسور في جامعة برنستون والكاتب في جريدة الـ ''نيويورك تايمز'' بول كروجمان إلى كتابة مقال نشر في الأول من أيلول (سبتمبر) عنونه بـ (كيف أخطأ الاقتصاديون بشدة؟).
وبول كروجمان، لمن لا يعرفه، هو الحائز جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008م، وهو كينزي المنهج ومن الذين نافحوا بشدة عن حزمة التحفيز الاقتصادي التي تبناها الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وإعادة الثقة إلى أسواق الائتمان. وفي مقاله هذا وصف للحالة التي وصل إليها علم الاقتصاد، وأسباب الثقة المفرطة فيه النماذج التي يطرحها، وتشريح للمناهج المختلفة لفهم الظواهر الاقتصادية، وتحليل وإعادة بعث لرؤية كينز، وهجوم مهذب على الفئة التي تتزعم مدرسة شيكاغو حالياً متهماً إياهم بالخروج على منهج أسلافهم وأرباب فكرهم مثل ميلتون فريدمان الذي اشتهر عنه قوله (كلنا كينزيون في الأخير)، مشيراً إلى أن التعامل مع الواقع الاقتصادي سيجعلنا كينزيين في النهاية.
يشير كروجمان في مقاله إلى أنه (خلال السنوات الذهبية، الاقتصاديون الماليون آمنوا بأن الأسواق مستقرة بذاتها، وأن الأسهم والأصول بشكل عام تعكس دائماً الأسعار الحقيقية، ولم يكن هناك ما يشير إلى حدوث أزمة. وفي الوقت نفسه انقسم أرباب علم الاقتصاد الكلي إلى فئتين: الأولى ترى أن الاقتصادات الحرة لن تظل الطريق، والثانية ترى أن الاقتصادات الحرة قد تظل طريقها، لكن ذلك يمكن أن يصحح عن طريق الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي). لكن أياً من الفئتين لم تؤمن ولم تكن مستعدة للتفكير في الاقتصاد عندما ينحرف عن مساره على الرغم من إجراءات الاحتياطي الفيدرالي). وبالفعل، فالنماذج الاقتصادية جميعها، خصوصاً تلك التي يقدمها التيار الاقتصادي الرئيس، لا تفترض أبدا أن هناك استغلالا قد يحدث من قبل الممارسين في الأسواق الحرة، وهي مبنية على افتراض الرشد الاقتصادي الذي سيقود الأفراد إلى العمل على تحقيق مصالحهم ومصالح الجماعة في آن واحد دون اعتبار لما يثبته الواقع أن كثيراً من الأفراد لا يعون فعلاً ما هو القرار الرشيد، وبالتالي يتصرفون بطريقة لا تتفق مع ما تتنبأ به النماذج الاقتصادية.
وفي هذا يشير كروجمان الذي يعاتب نفسه كما يعاتب الآخرين إلى أن مهنة الاقتصاد ضلت الطريق بسبب أن الاقتصاديين تجاهلوا الجمال الاقتصادي في زحمة انشغالهم بالنماذج الرياضية، وأنه إلى ما قبل الكساد الاقتصادي الكبير، آمن الاقتصاديون بشكل مفرط بأن النظام الرأسمالي مكتمل أو قريب جداً من الاكتمال. وهذا أعاد الاقتصاديين إلى الإيمان بالرشد الاقتصادي كمنطلق لنماذج اقتصادية تعتمد إلى حد كبير على المعادلات الرياضية وتأثرت إلى حد كبير بالتجاذبات السياسية وبالحوافز المالية. لذلك، كان الجري وراء إظهار القدرات في بناء تلك النماذج السبب الرئيس وراء الفشل الكبير الذي تعرضت له مهنة الاقتصاد، وهذا ما قاد الجميع لإهمال ما يمكن أن يحدث بشكل مغاير لتوقعات تلك النماذج، وهو ما يؤكد أهمية وضع اعتبار لانعدام الرشد الاقتصادي، والسلوك الإنساني غير القابل للتنبؤ، وأن الأسواق ليست مكتملة العناصر دائماً، وأن ليس هناك نظرية اقتصادية شاملة يمكن الاعتماد عليها).
مقال كروجمان والأفكار التي وردت فيه أطول وأغنى بكثير مما يمكن تلخيصه في هذا المقال، لكنه يقدم محاسبة للنفس ولمهنة الاقتصاد خلال الفترة الماضية انطلاقاً من تجاذبات فكر كينز وفريدمان، ومروراً بالنماذج الاقتصادية المالية الحديثة، وانتهاء بحزمة التحفيز المالي التي أثارت الجدل الكبير بين أرباب علم الاقتصاد مرة أخرى. هذا التقييم قد يكون له دور كبير في إبراز مناهج علمية اقتصادية كنماذج الاقتصاد السلوكي على حساب نماذج الرشد الاقتصادي، كما قد يكون هناك تأثير كبير لمناهج الشبكات العصبية Neural networks والذكاء الاصطناعي في البحث العملي الاقتصادي الذي يحاول بداية وانتهاءً التنبؤ بسلوك الإنسان الاقتصادي المعقد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي