الكوادر الوطنية بين المؤسس وخادم الحرمين
''وزارة المالية
المكتب الخاص
برقية واردة
رقم البرقية: 6086
تاريخ ورودها: 29/6/1357هـ
الجهة الصادرة لها: الرياض
ابن سليمان
عندنا شاب اسمه مهنا بن معيبد من أهل نجد كان مع البعثة الأولى في مصر وباقي له سنة ليأخذ شهادة الثانوية وعنده معرفة باللغة الإنجليزية وفيه استعداد للتعليم، ومن رأينا أن يرسل للشركة في الظهران للتمرن على الأعمال الفنية وبعد ذلك يرسل لأمريكا للتخصص في فن الزيوت, ويوجد شخص آخر اسمه عبد الله الطريقي من أهل الزلفي يتعلم الآن في مصر مع البعثة وأثنوا على اجتهاده وهو يصلح لهذه المسألة أيضا، ونظرا لأن الحكومة محتاجة إلى ناس من رعاياها يكونون متقنين لهذا الفن ولذلك راجعوا شركة كاليفورنيا في هذا الأمر وعرفونا بالنتيجة.
عبد العزيز''.
نص برقية من المؤسس الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، إلى وزير ماليته الشيخ عبد الله بن سليمان يعود تاريخها إلى عام 1937م. يمثل هذا العام محطة رئيسة في مسيرة السعودية كونه العام الذي اكتشف فيه النفط بكميات تجارية قرب مدينة الدمام بعد جهد خمسة أعوام من عمليات التنقيب المستمرة عن النفط ضمن اتفاقية امتياز التنقيب مع شركة ''ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا'' الأمريكية.
كان الاقتصاد السعودي يعتمد قبل هذا التاريخ على موارد اقتصادية متواضعة شكلتها طبيعة البلاد إبان تلك الفترة. من أهم هذه الموارد الزكاة، وغنائم معارك التأسيس، وضريبة الجهاد، والاقتراض الداخلي، وجمارك الموانئ، والحج.
وعلى الرغم مما وفرته هذه الموارد الاقتصادية من سيولة لتأسيس المملكة، إلا أنها ظلت متواضعة أمام طموح المؤسس، طيب الله ثراه، ليس في تأسيس كيان السعودية فحسب، وإنما في وضع هذا الكيان في قائمة الدول الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي.
بدأت بوادر ظهور تغيّر جذري في تركيبة الموارد الاقتصادية أعلاه مع ظهور بوادر وجود النفط في مدينة الدمام وإمكانية تصديره إلى الأسواق العالمية بكميات تجارية. لم يكن ظهور هذه البشائر خالياً من التحديات.
فالمملكة تمر بضائقة مالية ليست باليسيرة علاوة على انعدام معرفتها بتفاصيل هذا المورد الاقتصادي الجديد. استثمرت شركة ''ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا'' الأمريكية هذه الحاجة المادية و تواضع المعرفة الفنية في تسخير بنود الاتفاقية نحو ترجيح مكاسبها أمام مكاسب المملكة.
من أهم بنود الاتفاقية، أولا، أن مدة الامتياز 60 عاماً، و ثانياً، أن توفر الشركة للمملكة قرضاً مالياً فورياً بقيمة 30 ألف جنيه ذهبي، وثالثاً، أن توفر الشركة للمملكة قرضاً مالياً آخر بقيمة 20 ألف جنيه ذهبي بعد 18 شهراً من تنفيذ الاتفاقية، ورابعاً، أن تدفع الشركة للمملكة خمسة آلاف جنيه ذهبي إيجاراً سنوياً، وخامساً، أن تدفع الشركة للمملكة أربعة شلنات عن كل طن من النفط في حال اكتشافه.
وعلى الرغم من تواضع مكاسب البلاد من بنود هذه الاتفاقية، إلا أنها كانت أكثر تميزاً في مجملها من مثيلاتها مع الدول الإقليمية، كاتفاقية التنقيب عن النفط الإيراني والمكاسب التي جنتها الشركات النفطية الإنجليزية من الحكومة الإيرانية إبان تلك الفترة.
وعلى الرغم من تميز الاتفاقية عن مثيلتها الإيرانية، إلا أن طموح المؤسس، طيب الله ثراه، كان أبعد من تميز مؤقت إلى إبداع مستديم. تمثلت إحدى جوانب هذا الإبداع في أهمية تأهيل الكوادر الوطنية تأهيلاً فنياً، وإدارياً، ومالياً، وتقنياً، واستراتيجياً لتمكينها من التعامل باحترافية مع هذا المورد الاقتصادي الجديد محلياً، وإقليمياً، ودولياً، وتهيئتها لتتولي قيادة صناعة النفط السعودي عوضا عن الشركات الأجنبية. كانت إحدى الدوافع الرئيسة خلف مشروع تأهيل الكوادر الوطنية ما واجهه فريق التفاوض السعودي إبان تلك الفترة من تحديات تدور حول المعرفة الفنية بتفاصيل صناعة النفط وأبعاده الاستراتيجية خلال جولات التفاوض مع شركات النفط.
حيث أسهم تواضع الجانب المعرفي والاستراتيجي لدى أعضاء الفريق التفاوضي السعودي في عدم تحقيق مكاسب قصوى من اتفاقية التنقيب عن النفط. وعلى الرغم من ذلك إلا أن الله حبا البلاد بسياسات حكيمة أثمرت نتائجها في تغيّير بنود الاتفاقية لصالح المملكة مع مرور الوقت. استشعر المؤسس، طيب الله ثراه، أهمية تأهيل الكوادر الوطنية في صناعة النفط بما يضمن تفادي تحديات المستقبل وبلوغ آفاقه. تحديات يكمن حجر الزاوية فيها في العلم والمعرفة، وطريق طويل نحو الآفاق يلزم المسير فيه التسلح بسلاح العلم والمعرفة حتى تبلغ البلاد آفاقه بكل مهنية واحترافية.
بدأت أولى خطوات تنفيذ هذا المشروع الطموح بإيفاد اثنين من أبناء الوطن نحو التدريب العملي في الظهران، والتعليم الأكاديمي في الولايات المتحدة كأول سعودي مبتعث إلى تلك الديار البعيدة بمعايير الماضي. فأكمل الأول، مهنا بن معيبد، برنامجاً تدريبيا ميدانياً مع الشركة الأجنبية في الظهران، وحصل الآخر، عبد الله الطريقي، رحمة الله عليهم جميعاً، على درجة الماجستير في الجيولوجيا والنفط من أمريكا. استمر هذا المشروع في تأهيل الكوادر الوطنية في مجال الصناعة النفطية حتى وصل تعدادها قرابة الـ 70 ألف كادر قائم، إضافة إلى شريحة ليست بالقليلة من المتقاعدين، حسب إحصاءات شركة أرامكو. أسهمت، وتسهم، وستستديم هذا الكوادر الوطنية، بعون الله تعالى، في تحقيق رؤية المؤسس في وضع كيان السعودية في قائمة الدول الأكثر تأثيرا في الاقتصاد العالمي.
أعيد في هذا المقال قراءة مقتطفات من صفحات تاريخ صناعة النفط السعودي وما أنتجته رؤية المؤسس، طيب الله ثراه، في تأهيل الكوادر الوطنية في صناعة النفط والسعودية استقبلت قبل أسابيع ذكرى يومها الوطني الـ 79.
الجديد في هذه الذكرى العزيزة تصادفها مع افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. هذا الصرح العلمي الطموح الذي بلور حلم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله، منذ أكثر من 25 عاماً و شكل هاجساً ملحاً، تكلل بحمد الله و توفيقه، في تجسيده إلى واقع شامخ على أرض الوطن يتأهب إلى تأهيل كوكبة أخرى من الكوادر الوطنية نحو تجاوز تحديات المعرفة الشاملة وبلوغ آفاق العلم والمعرفة. صرح علمي طموح وضع معانيه الثلاثة خادم الحرمين الشريفين خلال حفل التدشين بعبارات أجدها مناسبة لختم هذا المقال وافتتاحية مقال الأسبوع المقبل حول مستقبل جامعة الملك عبد الله للعلوم و التقنية، بعون الله تعالى.
حيث قال خادم الحرمين الشريفين:
''فالجامعة التي نحتفل بافتتاحها لا تبدأ من الصفر فهي استمرار لما تميزت به حضارتنا في عصور ازدهارها، وهذا هو المعنى الأول للجامعة...
... لقد ارتبطت القوة عبر التاريخ، بعد الله بالعلم، و الأمة الإسلامية تعلم أنها لن تبلغها إلا إذا اعتمدت، بعد الله، على العلم. فالعلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصمين إلا في النفوس المريضة. ولقد أكرمنا الله بعقولنا التي بوسعنا أن نعرف سنة الله في خلقه، وهو القائل جل وعلا: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وهذا هو المعنى الثاني للجامعة.
... أن المراكز العلمية التي تحتضن الجميع، هي الخط الأول للدفاع ضد ''الإرهابيين''، و اليوم ستنضم هذه الجامعة إلى زميلاتها في كل مكان من العالم دارا للحكمة، ومنارة للتسامح وهذا هو المعنى الثالث للجامعة''.