ماذا خسر السعوديون بسبب ندرة التطوير العقاري المؤسساتي الشامل؟
جاءتني ردود أفعال كثيرة على مقالة الأسبوع الماضي التي كتبتها بعنوان "مشاريع الصرف الصحي وإتلاف شوارعنا", منها ما كان على موقع المقالة في الصحيفة ومنها ما جاءني مباشرة على بريدي الإلكتروني ومفادها بشكل إجمالي أن الجميع يعاني تلف شوارعنا ويخسر المال والصحة والراحة معا، وللأمانة لم يأتني أي تعليق من المسؤولين في الأمانة أو في الجهات المقدمة لخدمات البنى التحتية, خصوصا الصرف الصحي, الذي وجهت إليه أصابع الاتهام في إتلاف معظم شوارعنا التي تشهد عليهم شهادة حق بما تركوه من آثار واضحة نتيجة حفرياتهم.
تداولت الموضوع في ذهني لماذا هذا التجاهل وعدم الرد والتفاعل رغم توجيهات خادم الحرمين الشريفين لجميع الجهات الحكومية بالتفاعل مع ما تنشره الصحف وما يعانيه المواطن؟ فقلت لعل تلك الجهات, خصوصا الأمانة, ولا عذر لها بهذا المستوى من الإتلاف لشوارعنا, بذلت كثيرا من الجهود إلا أن الشق اتسع على الراقع بسبب بذور المشكلة المتمثلة في سيادة التطوير الإفرادي الجزئي غير محدد استعمالات الأراضي والمدة لأكثر من 95 في المائة من أحيائنا وندرة التطوير المؤسساتي الشامل محدد استعمالات الأراضي والمدة حيث تعد الأحياء المطورة مؤسساتيا على الأصابع (حي السفارات، حي الجزيرة، حي القصر، وخشم العان للحرس الوطني).
وهذا يعني أن معظم الأحياء طورت مؤسساتيا وبفترة زمنية محددة من أراض بيضاء إلى أراض مخططة ومسفلتة فقط, ومن ثم بعد أن قامت بعض الأبنية التي تستكمل على سنوات طويلة تناوبت الجهات المقدمة لخدمات الكهرباء والماء والصرف الصحي والهاتف الأرضي كل على حدة وعلى فترات متفاوتة وبعقود منفصلة (لاختلاف خطة كل جهة لإيصال خدماتها عن الأخرى من حيث التوقيت) لاستكمال خدمات البنى التحتية والعلوية, ما يعني أن الحفر والردم عملية متواصلة لسنوات طويلة في تلك الأحياء بما لا يمكن أمانات المدن وبلدياتها من الحد من إتلاف الطرق.
صحيح بعض الأحياء أصبحت تشتمل على تمديدات الكهرباء والماء كشبكة رئيسية إلا أن التمديدات للمساكن تبقى مستمرة, فكلما اكتمل منزل أو عمارة فلا بد من الحفر والردم لإيصال الخدمات له, والنتيجة حفر ومطبات جديدة كنتيجة طبيعية لغياب معايير الحفر والردم وضعف المراقبة. ولو سألت من مدد الشبكات الرئيسية للكهرباء والماء حتى الصرف الصحي في الأحياء القديمة لماذا لم تمدد للعقارات حسب الخريطة المعتمدة؟ لقال إن المخطط لا يبين استخدامات الأراضي فربما تدمج الأراضي في بيت واحد وربما تفرز لعدة مساكن وربما تبقى أرضا فضاء لثلاثين سنة مقبلة, وربما تصبح موقعا لبرج اتصالات وربما وربما وربما, فاستعمالات الأراضي غير محددة وغير معروفة ونحن في عالم المفاجآت!.
إذن التطوير المؤسساتي الذي يقف عن حد تطوير الأراضي البيضاء إلى قطع سكنية وأخرى تجارية وشوارع ومن ثم سفلتتها وتمديد شبكات الكهرباء والماء الرئيسية وربما الأرصفة والتشجير والإنارة الذي يركز على بعد واحد للعقارات على أنها مقر لنشاط تجاري أو مأوى فقط ومن ثم ترك التطوير للأفراد متى وكيفما أرادوا, ذلك يشكل بذور المشكلة التي تنبت شجرة تتفرع لمشكلات لا حصر لها في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية تؤدي إلى خسائر متعددة تضعف جودة حياتنا.
ذلك أننا نخسر اقتصاديا نتيجة تهالك مساكننا بسرعة كبيرة لأننا طورناها نحن كأفراد لا خبرة لنا رغم ما نبذله من أموال, ما يجعل المسكن منخفض الجودة يتطلب صيانة بمجرد السكن فيه، ولنا أن نعرف معدلات التهالك إذا قارنا أسعار عقارات وسط مدينة الرياض بمثيلاتها في العالم, حيث تتعاظم قيمة الوسط بمرور الزمن في الدول التي طورت أحياءها مؤسسات مطورة, بينما تهالكت عقاراتنا في وسط الرياض بشكل مريع حتى بتنا نريد أن نزيلها كلها ونطورها من جديد, وهو تبديد مؤلم لثروة الأفراد والوطن.
ولأننا نخسر نفسيا واجتماعيا فمساكننا التي تتطور على مدى زمني طويل لم تعد سكنا بل إزعاجا لكثرة ما نسمع من أصوات المعدات الثقيلة والخفيفة وهي تحفر وتردم وتسفلت وأصوات سيارات صب الخرسانة وأصوات العمالة ومعداتهم وما نتعرض له من الأتربة نتيجة عمليات الحفر والردم والبناء المستمرة, ولأن أحياءنا لم تعد لا حياة فيها, فكل يلزم مسكنه لعدم وجود الأرصفة الوسيعة التي توصل للمساجد والخدمات، وعدم فصل الحركات الثلاث (حركة السيارات، حركة المشاة، ومواقف السيارات), فالكل متداخل فما أن تسير في الحي حتى يدهمك الخطر من كل مكان, وهو ما يجعلنا نخسر صحيا بالتبعية فلا حركة في الحي إلا تركب سيارتك وتذهب عدة كيلو مترات في زحمة الرياض إلى مكان مخصص للمشي, وهذا متعب وممل, وبالتالي فنحن نخسر علاقاتنا الاجتماعية مع الجيران كما نخسر صحتنا لعدم القدرة على المشي.
نخسر أيضا البيئة الصحية الجميلة, فالتلوث الصوتي وتلوث الهواء حدث ولا حرج, والتلوث البصري (خصوصا إذا أضفنا ما ترميه "القلابيات" التي تنقل المخلفات في أحيائنا) دمر شعورنا بالجمال والذوق, فقد اعتدنا الردميات عندما نسير في شوارع الحي وعندما نفتح شبابيك منازلنا، ونخسر الشعور بالأمن حيث العمالة تتحرك في الحي باستمرار وما أكثر ما سرقوا وساعدوا على السرقة، وكم من مواطن خسر المتعة في إجازته لأنه لا يستطيع ترك مسكنه دون أحد, فالأمن في الحي غير متوافر في ظل غياب الخصوصية, فلا تعرف جارك من الزائر من المار فالكل غريب بالنسبة إليك, والكل يمكن أن يكون ساكنا أو غير ساكن.
لا تتسع المقالة لذكر كل خسائر المواطن السعودي ووطنه الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والصحية والبيئية والأمنية بسبب ندرة التطوير العقاري المؤسساتي الشامل محدد الاستعمالات والمدة, فالخسائر والتفصيل بها تحتاج إلى أكثر من مقالة، لكن هذه بعض الخسائر التي أطالب من خلالها أمانات المدن بضرورة معالجة هذا الوضع بأسرع وقت ممكن فيكفينا خسائر لا مبرر لها لا يرضاها أحد لوطننا الغالي ومواطنيه.