رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل الانتحاري إنسان سوِى؟

ابتُلي المسلمون خلال العقود الأخيرة من العصر الحديث بأمر لم يكن على الإطلاق من مقاصد ديننا الحنيف ولا من مبادئ الأخلاق الإسلامية ولا من شيم أخلاقنا العربية، بل إنها ممارسة قد ترمي صاحبها في النار ـ والعياذ بالله، ألا و هو الانتحار بقصد قتل أبرياء ـ حمانا الله و إياكم, وقد عرفنا هذا النوع من التضحية بالنفس عند بداية تنفيذ العمليات الانتحارية على أرض فلسطين ضد المحتلين الصهاينة، والتي كانت تُعبِّر عن اليأس لدى أفرادها لعدم قدرتهم على الانتقام من عدوٍّ ظالم شرس يسومهم سوء العذاب ويُقتِّل صغيرهم وكبيرهم. و كان منا آنذاك منْ يمنح الانتحاريين داخل فلسطين بعض العذر على أساس أنها الطريقة الوحيدة المتيسرة لديهم لتلقين عدوهم درساً قاسيا يتناسب مع طغيانه وجبروته، وهو ما يمكن أن يُصنَّف من باب الدفاع عن النفس. ولكن ثقافة الأعمال الانتحارية انتشرت داخل العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم، ونادراً ما يكون أحد أطراف الانتحاريين من غير أبناء المسلمين. وذلك مما جعل عمليات الانتحار التي هدفها التدمير والقتل من صفات الإسلام والمسلمين في نظر الشعوب الأخرى- ونحن ـ إن شاء الله - براء من هذه الأعمال الوحشية وغير الإنسانية. وأصبحت العمليات الانتحارية ظاهرة مُخيفة، فلا يمضي يوم واحد دون أن نسمع عن عشرات القتلى والجرحى نتيجة لتفجير انتحاري، معظمهم من الأبرياء الذين لا ذنب لهم إلا مصادفة وجودهم في الموقع المشؤوم.
وإن المرء ليقف حائراً ومتسائلاً في الوقت نفسه أمام أسباب تلك الدوافع القوية التي تُؤدِّي بإنسان سويِّ العقل، أو هكذا نفترض، إلى أن يُقدم على فعل مهمة يُخشى أن تقوده إلى النار ويتسبب في قتل العشرات وربما المئات والآلاف من الأبرياء، ولصالح منْ؟ ونحن نعرف أن هناك طرفين في أغلب العمليات الانتحارية، الفاعل نفسه ومنْ يقف وراءه، وهو الذي استطاع أن يغسل مُخَّ فاقد الإرادة الانتحاري. وهذا العمل يتطلب مجهوداً جباراً من أجل أن تُقنع إنساناً بسيطاً بأن يُضحي بنفسه وبأهله وأولاده فيفقد حياته وحياة ضحايا الانتحار دون أي مقابل، ما عدا وعود وهمية. فبأي حق لأولئك الذين يقفون وراء المنتحرين يتجرؤون على الله ويعدُون المنتحر بالجنة والحور العين، وهم لا يملكون لأنفسهم من ذلك شيئاً؟ ثم أليس من المضحك المبكي أن يفقد الانتحاريون أعمارهم ويبقى المدبرون؟ إذ لو كان المدبرون واثقين يأن مصير ذلك الإجرامي المُغرر به إلى الجنة، فلماذا لا يسبقونه هم أنفسهم ويغنمون الجنة، بدلاً من التغرير بالشباب و ترغيبهم في فعل المنكرات والقضاء على مستقبلهم ومستقبل منْ يعولون؟
هناك من يظن أن الحافز من وراء الأعمال الانتحارية هو نوع من الغيرة على الدين من أجل تصحيح أوضاع مُعينة كما يدعي أصحاب الفكر الضال، وهذا هو ربما سبب ربط عملية الانتحار بدخول الجنة، ولكن المتمعن في حقيقة الأمر قد يصل إلى نتيجة مغايرة, فهناك أمور كثيرة غير المسائل الدينية قد تُثير حماس الشباب و تدفعهم إلى ممارسة أعمال ربما تصل إلى حد الإجرام والتضحية بالنفس من أجل شهرة أو مجرد انتقام. فالانتحاريون اليابانيون الذين كانوا يُضحُّون بحياتهم داخل طائراتهم الفتاكة خلال الحرب العالمية الثانية، من المؤكد أن ذلك لم يكن بدافع ديني، بل انتصاراً لبلدهم ومواطنيهم. واللافت للنظر بالنسبة للانتحاريين الذين هم من بيئتنا أنه لم يظهر لنا أنهم قبل التجنيد كانوا يُعانون أوضاعا اجتماعية مُتدنية أو أن لديهم مشكلات اقتصادية ولا حتى ظروف عائلية صعبة, بل الذي يتضح من أحوالهم أنهم كانوا يعيشون بين أسر محترمة ومستورة، وبعضهم كانوا مُنتظمين في المدارس والجامعات, ومع ذلك وقعوا ضحية لأفكار هدامة يتبناها أفراد قلوبهم خالية من الرحمة وخاوية من الإيمان ورؤيتهم لا تتعدى أخمص أقدامهم، فلا يتخيلون عظم المصائب الإنسانية الهائلة التي يتسبب فيها الانتحاري سواء على عائلته المباشرة أو على ضحايا عمله الإجرامي ـ كفانا الله و إياكم ـ شر الطرفين.
لقد شاهدنا تفجيرات انتحارية مجنونة كان الهدف منها تدمير سفارة لدولة ما، ولكن الضحايا، وكانوا بالمئات، من مواطني البلد المُضيف الذين لم يكونوا مقصودين وإنما صادف وجودهم في موقع الحدث، وقس على ذلك الأعداد الكبيرة من أُسر أولئك الضحايا الذين فقدوا منْ يُعولهم. أي نوع هذا العمل الإجرامي من البطولة أو الرجولة؟ إنه يُمثل أقصى مراتب الإجرام والاستهانة بأرواح الأبرياء. أما التفجيرات التي تحدث في العراق وأفغانستان وبلاد أخرى اليوم ويذهب ضحيتها أعداد كبيرة من النساء والأطفال فهي أيضا قمة الإجرام، بصرف النظر عمنْ يُخطط لها ومنْ يُنفذها. ولا يمكن على الإطلاق أن يكون الدافع لتنفيذ مثل هذه الأعمال له علاقة بأي شريعة أو مذهب, فالأديان، وعلى وجه الخصوص ديننا الإسلامي الحنيف، تُحرِّم الغدر وقتل الأبرياء من أي جنس كان. ونخشى، والله سبحانه أعلم، أن يكون مصير المُفجِّرين والانتحاريين إلى جهنم، حمانا الله و إياكم.
والذين يقومون بالأعمال الانتحارية التي أصبحت من سمات عصرنا الحديث، لا يمكن أن نربط بين ما يقومون به من إقدام جنوني على قتل أنفسهم وإزهاق أرواحهم دون أي تردد وبين ما نطلق عليه الشجاعة المحمودة, فالشجاع هو الذي يُقدم على القيام بمهمة إنسانية فيها درجة عالية من الخطورة على حياته، كالذي يبذل جهداً كبيراً من أجل إنقاذ نفس بشرية من موت مُحقق، أو رجل في موقع جهاد، أو دفاعاً عن النفس والمال والعِرض. أما غير ذلك، فهو نوع من أعمال إلقاء النفس إلى التهلكة التي نهانا الله عنها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي