الوصفة السعودية.. أعراضها الجانبية والحاجة إلى مبادرة لم تولد من رحم الأزمة
ما يخص العالم سيناقش في بتسبرج، وما يخص السعودية سينفذ هنا. وما دام الأمر كذلك، فالمعول عليه - بعد الله - النجاح في البحث عن مخرج للعالم، وعلى مستوى أكثر تحديداً، البحث عن فرصة لتوظيف ما بيدنا من أوراق أفضل توظيف آخذاً في الاعتبارات المتغيرات التي أحدثتها الأزمة في تضاريس الاقتصاد العالمي. حيث سيلتئم جمع من قادة اقتصادات العالم المؤثرة والكبيرة الأسبوع المقبل في بتسبرج.. وتحيط بتلك القمة حالة من عدم التيقن عما ستتمخض عنه، تماماً كما لفتت حالة من الضبابية في الاقتصاد العالمي لما يزيد عن العام من عمر أزمة مالية - اقتصادية خانقة.. خلفت الكثير من الأضرار، وتركت دولاً كانت فقيرة منسية أكثر فقراً.
وكما تعددت الأقوال والتكهنات عند بداية الأزمة، فالساحة العالمية تعج حالياً بتنظيرات شتى.. وإن كان من شيء فهو أن الاقتصاد العالمي مازال في وطيس الأزمة الحامي، ويبدو أن جرع التفاؤل الآتية من تصريحات برنانكي ورئيسه الرئيس أوباما مبررة، لكن لا يمكن أن ترقى لتكون كلمات تأبين الأزمة ووداعها.. الأزمة كانت بدايتها مدوية، حيث ولدت في الولايات المتحدة، لكنها أخذت طريقها بهدوء متسللة لتلف جميع اقتصادات العالم دونما استثناء، فكانت تأثيراتها متفاوتة من اقتصاد إلى آخر.
وطلباً للتحديد، فقد كان هناك اتفاق منذ البداية أن تأثير الأزمة في السعودية وبقية دول مجلس التعاون سيكون غير مباشر.. بمعنى أن الأزمة لم تؤثر في خطط الإنفاق الحكومي بل استمر بصورة متصاعدة، ولم تود الأزمة بشركات ومصانع وبنوك، لكنها جعلت قطاعنا الخاص – بالجملة - متحوصلا على الذات وكأنه يترقب شيئاً ما أن يحدث! أما التأثير المباشر فقد ارتبط بالمسبب الرئيسي للأزمة وهو التوسع الكبير في استخدام الروافع والاعتماد اعتماداً هائلاً على الهيكلة المالية القائمة على الاستدانة بصور ووسائل شتى، وفي أحيان عدة بصورة لا يبررها سوى الطمع.. بما فيها تلك الصور القائمة على أساليب «تلبيس الطواقي». وبذلك فإن تأثير الأزمة تجسد في قحط وجدب أصاب الهيكلة القائمة على الروافع المالية، مما أدى إلى إلغاء أو تأجيل عديد من مشاريع القطاع الخاص المرتكزة إلى تسهيلات أو قروض مصرفية، وفي الوقت نفسه دفع الحكومات وخصوصاً الحكومة السعودية إلى التدخل في حالات عدة لتنفذ لمشاريع كانت ستنفذ من خلال صيغ «تمويل المشاريع» عبر القطاع الخاص.
وبناء على ما تقدم، يمكن القول إن تأثير الأزمة في الاقتصاد السعودي يمكن إيضاحه على محورين:
1. خروج القطاع الخاص من عدد من المشاريع المليارية خصوصاً ذات الصلة بالبنية التحتية، وتأجيل أو حتى إلغاء عدد من مشاريعه الإنتاجية الفوقية، وهذه بطبيعتها مشاريع ساعية للربح، أي أن القطاع الخاص ينجزها ليس كمقاول لصالح الحكومة. ولعل خير مثال هو مشاريع التطوير العقاري. وبالتأكيد فإن هذا سيؤدي إلى التأثير في ربحية المؤسسات ذات الصلة بتلك المشاريع. وإذا ما جمعنا تعطل بعض المشاريع نتيجة لانحسار التمويل من جهة، ووقوع تلك المؤسسات تحت ضغوط السداد لما عليها من التزامات كبيرة (نتيجة للتوسع التاريخي في استخدام الروافع والاقتراض إجمالاً) نجد أنها بين فكي «كماشة» تعصر تلك المؤسسات عصراً. وفي حال وقوع مؤسسات عائلية كبيرة لها مصالح كبيرة ومؤثرة، وأحياناً مسيطرة، في أكثر من قطاع نجد أن ذلك سيؤثر - إذا ما استمر - في استقرار بيئة القطاع الخاص وفرص نموه.
2. تعزيز دور الحكومة الاقتصادي، وذلك عبر مدخلين رئيسين:
* الحلول محل القطاع الخاص في عدد من المشاريع، بصورة مباشرة عبر امتلاك المشروع، أو بصورة غير مباشرة عبر الحلول محل البنوك في توفير التمويل لبعض المشاريع.
* الاستمرار في سياسة زيادة الإنفاق إجمالاً، وخصوصاً الإنفاق الاستثماري لمستويات، ولعل من المناسب الإشارة إلى أن مقارنة مستوى الإنفاق الاستثماري كنسبة من الإنفاق العام للحكومة أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تبين أن النسبة في السعودية أعلى من نظيرتها في دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD.
ورغم أن جهود الحكومة للتعامل مع تداعيات الأزمة المالية كانت ضرورية ومنسجمة مع أهمية الحفاظ على الجهد الذي بدأته المملكة منذ نحو خمس سنوات بالإنفاق الاستثماري المتصاعد على محركات التنمية وخصوصاً البنية التحتية وما يتعلق بالصحة والتعليم، حيث أدت مثل هذه الجهود أن تستلم وزارة التربية والتعليم ما معدله مدرستان جديدتان يومياً.. ورغم ذلك إلا أن القطاع الخاص - بالمقابل - وجد نفسه وجها لوجه أمام حالة من الضبابية وعدم التيقن أدت به - بصورة عامة - إلى كبح جماح الاستثمار والتريث والميل للإبقاء على الأصول سائلة قدر الإمكان. وبالتأكيد فإن مؤشرات ذلك تتضح عند مراجعة الإحصاءات ذات الصلة؛ من عرض النقود إلى نشاط الاستيراد (الاعتمادات المستندية الممولة من البنوك) إلى النمو مطلوبات البنوك من القطاع الخاص.. أما السوق المالية السعودية الوليدة، فقد وجدت نفسها، أمام مستويات تداول متواضعة، وعدد من الطروحات محدودة، وسوق صكوك تنفذ عدداً قليلاً من الصفقات يومياً، أما نشاط الامتلاك والاستحواذ والملكية الخاصة فقد وصل إلى حدّ التوقف، فيما عدا صفقات قليلة هي بمثابة «حالات خاصة».
حالة الترقب هذه لم يكن بوسع الحكومة أن تزيلها أو تكسرها دون أن تكون لذلك أعراض جانبية على الاقتصاد المحلي، فقد بادرت الحكومة - كما سبقت الإشارة -للاستثمار المباشر في أكثر من قطاع، ووصل الإنفاق الاستثماري إلى مستويات تجاوزت ما تقوم به أكبر اقتصادات العالم حيوية.. وبالمقابل، يمكن الجدل بأن القطاع الخاص من خلال مؤسساته، بوسعه أخذ زمام المبادرة للاستفادة من فرصة غالية.. تلك الفرصة لم تفرزها الأزمة مباشرة، بل أفرزتها جملة أمور:
* الإنفاق الاستثماري العالي للحكومة والذي كان متواصلاً وبصورة متصاعدة كما سبقت الإشارة، من خلال مخصصات الميزانية العامة للدولة، إضافة إلى المشاريع الممولة من فائض الميزانية.
* إعلان خادم الحرمين الشريفين في قمة العشرين الأولى عن التزام المملكة بإنفاق ما قيمته 400 مليار دولار على مدى خمس سنوات لتنمية البلاد، وكان هذا التصريح إعلاناً واضحاً لا لبس فيه عن نية المملكة الاستمرار في إنفاقها الاستثماري العالي.
* إدراك المستثمرين في الداخل والخارج أن لدى الحكومة فوائض مالية كبيرة، وأن أولوية الحكومة هو الإنفاق الداخلي لتحقيق المبادرات العديدة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين والتي ولدت وتولد مشاريع كبيرة تؤثر في مجمل مصادر نمو الناتج المحلي الإجمالي وتحقق تنوعه ومن ذلك العدد الكبير من الجامعات الجديدة، والمدن الاقتصادية الجديدة وتحديث البنية التحتية في المدن والبلدات.
ويمكن الجدل بأن هذا الضخ الحكومي الواضح والمتواصل وبوتائر متصاعدة على مدى السنوات الخمس الماضية، أوجد للقطاع الخاص الأرض الصالحة الممكن توظيفها لتجعل من اقتصادنا المحلي مغناطيساً مستقطباً، وذلك لاعتبارات، منها:
* قدرة الاقتصاد المحلي على النمو مقارنة بمعظم اقتصادات العالم المنكمشة.
* التراجع الواضح في أسعار السلع والخدمات.
* تبني الحكومة رسمياً استراتيجيات وطنية تتعلق بتوظيف الموارد البشرية والصحة والتعليم العالي والأبحاث على سبيل المثال لا الحصر.
* اهتمام المملكة رسمياً بتحسن مناخ الاستثمار وذلك يتضح من النجاحات التي حققتها الهيئة العامة للاستثمار في هذا المجال.
* إطلاق عدد من البرامج التمويلية الحكومية لحفز المشاريع المتوسطة والصغيرة، ومنها جهود بنك التسليف والادخار وبرنامج «كفالة» على سبيل المثال لا الحصر.
ولعل من المناسب بيان أن جهود الحكومة - مع كل ذلك - تبقى ضرورية وغير كافية. وفي الوقت نفسه فإن توظيف فرص واستثمارها هو أمر في صلب مهام القطاع الخاص، إذ إن التوظيف والاستثمار بهدف تحقيق ربح هو مهمة ريادية تتطلب أن يأخذ بناصيتها مؤسسة أو شركة قادرة على المخاطرة مقابل تحقيق عوائد. والنقطة هنا، أن المخاطر قد تكون عالية نسبياً لكن العوائد كذلك عالية.. ثم أن الذي يريد أن يبز منافسيه، عليه أن يمتلك رؤية وقدرة على الدخول في عباب الحالة الضبابية بحثاً عن التيقن أو على الأقل ما يكسر حالة الجمود الاستثماري بانتظار أن شيئاً ما مفاجئاً سيحدث. الحقيقة، أننا نحن نحدث الأشياء ونحرك المياه الراكدة. وفي حالة اقتصادنا السعودي، فليس هناك ما يبرر حالة التحوط المطبق الذي تمارسه عديد من مؤسسات القطاع الخاص. ولا ليس وارداً أن تلقي بنفسها إلى تهلكة الخسائر، ولكن عليها أن تجترح وسيلة حتى تستفيد من الفرص الواعدة.
يبقى القول إن الفرصة المتاحة تتبخر إن لم توظف، وأننا إن لم نوظفها فسيفوز بها «عكاشة» ما القابع في مكان ما من الإقليم أو العالم! لكن الفرص المتاحة تأتي بتاريخ صلاحية تتبخر بعده. وعليه، فلعل من المناسب دعوة قطاعنا الخاص أن يطلق عددا من البرامج والمبادرات لمواكبة وقطف الثمار اليانعة، وبذلك يكون الجهد تكاملياً (بين الحكومة والقطاع الخاص) يصب في مصلحة الاقتصاد ككل، بما في ذلك إتاحة مزيد من فرص التوسع أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وإتاحة مزيد من فرص العمل القيمة للمواطنين والمواطنات.
إذا نحن بحاجة لمبادرة تزاوج بين جهود الحكومة وجهود القطاع الخاص لتوظيف الأوضاع العالمية التي أفرزتها الأزمة والتي دفعت باقتصادات عدة للأمام، ولعل من المناسب أن ترتكز المبادرة إلى فكرة استقطاب الموارد لتحقيق استراتيجية التنويع الاقتصادي. وعلى سبيل الإيضاح، فلعل من المناسب بيان أن السعودية سعت جاهدة على مدى قرابة نصف قرن لتنويع مصادر الاقتصاد وإدخال توازن يخفف - من جهة- من هيمنة النفط على اقتصادنا المحلي، وينمي - من جهة أخرى - من قدرة بقية القطاعات على النمو والتوسع.
ولابد من الإقرار، أن طوال الوقت كان هناك معوقات تحد من قدرة الاقتصاد السعودي على تنفيذ استراتيجية التنويع الاقتصادي بفاعلية. والآن، هي الفرصة السانحة.. لكن لابد من خطة لعب ومن هداف له قدرة على الاقتصاد في الوقت، وتسجيل الأهداف مبكراً. ولماذا الآن؟ الأنظار متجهة للسعودية انطلاقا من:
* أدائها المتوازن في مواجهة الأزمة المالية.
* كما أن السعودية قد بدأت ومنذ الألفية الجديدة بالعمل على تقوية الذات باتساق واضح، فقد منحت أولوية لسداد الدين العام، ولتحسين البنية التحتية، والاستثمار في الموارد البشرية، وفي تحسين مناخ الاستثمار، وفي تعزيز دور وإمكانات الصناديق التنموية المتخصصة.
* أن ذلك عزز جعل السعودية خيارا جادا لاستقطاب الاستثمارات والتقنيات والخبرة الأجنبية.
* أن هناك فرصة ليس فقط لإيجاد شراكات جديدة في عديد من قطاعات الاقتصاد المحلي بما يحقق استراتيجية التوظيف فحسب، بل كذلك انطلاق منشآت ومؤسسات القطاع الخاص للاستفادة من البرامج المتعددة بما يمكنها من تصدير السلع والخدمات والاستثمار في الأقاليم المجاورة وبما يمنح مؤسسات القطاع الخاص السعودي والمؤسسات غير السعودية التي اختارت أن تجعل من السعودية منصة انطلاق لها في منطقة دول مجلس التعاون والمنطقة العربية وما حولها.. بما يمنحها فرصاً أكبر للنمو.
وهكذا، فإن المبادرة هي مبادرة لإعادة تركيز الضوء على تنويع اقتصادنا المحلي، فمنذ سبعين سنة والجميع يلهج بأن النفط لن يدوم للأبد، وحيث إن الأمر كذلك، وحيث إننا مازال اقتصادنا حتى الساعة يعتمد اعتمادا هيكلياً على النفط.. فلابد من منح الأولوية والإمكانات لمبادرة وطنية لتحقيق التنوع الاقتصادي بوتائر متسارعة ليصبح مرتكز اقتصادنا - وبالتدريج - مواردنا البشرية ومؤسساتنا الصغيرة والمتوسطة. وهنا، نعود لنقطة البدء أن أجندة معالجة تداعيات الأزمة العالمية يجب أن تكون محلية ابتداء مع أخذ مستجدات الأوضاع من حولنا في الاعتبار.