انعكاسات الأزمة العالمية على مشاريع المدن الاقتصادية والصناعية السعودية!

شرعت المملكة أخيرا في إنشاء عدد من المدن الاقتصادية والصناعية في مختلف المناطق، كمدينة الملك عبد الله الاقتصادية في رابغ ومدينة حائل ومدينة جازان وغيرها. وهو توجه محمود تم تبنيه انطلاقاً من قاعدة قوية ونظرة متفائلة للمستقبل. المهم، هو أن جل تلك المشاريع أُعد قبل وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ومن ثم علينا أن نتساءل عن انعكاسات تلك الأزمة على تلك المدن الجديدة ومدى القدرة على إنجازها ضمن التوقيتات التي تم تحديدها سلفاً؟ وهل هناك حاجة إلى مراجعة استراتيجيات تطوير هذه المدن في ضوء هذا المتغير الجديد؟
لا يمكن أن ننكر تأثير الأزمة المتعدد الجوانب في تلك المشاريع والانطلاقات الكبرى، ولكن فقط سأركز على ثلاثة جوانب، أحسبها في مقدمة التأثيرات، على أن أعرض في خاتمة المقال لآليات مواجهة تلك التحديات، أما بالنسبة إلى تبعات الأزمة فهي:
الأول: تراجع وتباطؤ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى تلك المدن: فكما سمعنا وتابعنا، أثرت الأزمة بالسلب في المتغيرات الدولية كافة، وكان تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر من بينها، حيث تراجع بنسبة راوحت بين 20 و30 في المائة. كما أنه من المتوقع أن يتوجه هذا الاستثمار – على أثر الأزمة – نحو الاقتصادات الأكثر تأثراً بالأزمة، حيث انخفاض قيمة الأصول إلى أدنى مستوى وهو ما يلهب شهية المستثمر المباشر. يفهم من هذا أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المملكة – وتحديداً إلى تلك المدن الجديدة – لن تكون بالقوة أو المعدلات المستهدفة سلفاً نفسها، فالتراجع متوقع، وهو ما يعني تأخيرا في إنجاز كثير من المشاريع في تلك المدن. فكما نعلم أن المستهدف هو أن يشكل الاستثمار الأجنبي المباشر محركا رئيسا للنشاط في هذه المدن، وهذا المحرك سيتعطل جزئياً بفعل الأزمة، ومن ثم علينا التحرك لفعل شيء.
الثاني: تراجع الاستثمار المحلي وتحديداً الاستثمار الخاص، فكثير من الشركات المحلية تأثرت بشكل أو بآخر بفعل الأزمة، سواءً كان التأثير مباشراً أو غير مباشر، ولنأخذ مثال الائتمان كتأثير غير مباشر، فأغلبية الشركات التي كانت تعد للعمل في تلك المدن، كانت تخطط للاعتماد على قنوات الائتمان المحلي، ولكن آلية الائتمان تعطلت جزئياً بفعل الأزمة لاعتبارات كثيرة عرضنا لها في مقال سابق, فالمفترض أن يكون المستثمر الوطني هو اللاعب الرئيس في تلك المدن الجديدة، ولكنه يعاني جزئياً بفعل تأثيرات الأزمة، وبالتالي سيؤثر هذا الوضع بالسلب في برامج ومشاريع إنجاز تلك المدن. ومن ثم، علينا العمل لتحريك هذا المتغير المهم.
الثالث: تراجع الصادرات العالمية، لقد ضربت الأزمة العالمية قطاع الصادرات على أثر تراجع الطلب العالمي على مختلف السلع، فالجميع يحاول الاحتفاظ بما لديه لتجنب الأسوأ القادم، ولاحظنا كيف أن الصادرات غير النفطية للمملكة شهدت تراجعاً ملحوظاً خلال الأشهر التي تلت وقوع الأزمة. ومعروف أن من بين أهداف إنشاء المدن الاقتصادية والصناعية تشجيع الصادرات، فأغلبية المشاريع الصناعية التي ستعمل في مدينة الملك عبد الله مثلاً هي ذات توجهات تصديرية، ولكن قطاع الصادرات العالمي يعاني حالة من التراجع ولن يتعافى بشكل كلي إلا بعد فترة تراوح بين خمس وسبع سنوات بحسب بعض التقديرات. ومن ثم لا بد من عمل شيء لمواجهة هذا التحدي.
مؤكد أن الأزمة العالمية، وكما فرضت تحديات مثل التي أشرنا إليها أعلاه، فإنها وفرت أيضاً فرصاً كبيرة، وفي مقدمتها انخفاض أسعار السلع والمنتجات، خاصة منتجات البناء والتشييد وغيرها من مدخلات الإنتاج، إضافة إلى عودة كثير من رؤوس الأموال من الخارج بعد أن ضاقت أمامها السبل بفعل الأزمة. ومن ثم يمكن أن نقول رب ضارة نافعة. نعم .. فرضت الأزمة العالمية تحديات كثيرة بالنسبة إلى مشاريع المدن الاقتصادية والصناعية، ولكنها فرصة أيضاً لإعادة ترتيب الأوراق، والتخطيط من جديد وعلى أرضية جديدة. ومن ثم – وللتغلب على التحديات المشار إليها أعلاه – نقترح تبني الخطوات التالية:
أولاً: على صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر، ينبغي أن يبقى خياراً مهماً ورئيساً، وعلينا تبني استراتيجية ترويج جديدة للفرص الاستثمارية في تلك المدن، تختلف عن تلك التي كانت متبعة قبل وقوع الأزمة، كأن يتم التوجه خلال هذه المرحلة الانتقالية نحو الدول الأقل تضرراً من الأزمة، وفي مقدمتها دول شرق وجنوب شرقي آسيا. فقد باتت هذه الدول لاعبة رئيسة في مجال صادرات الاستثمار الأجنبي المباشر (بحسب تقارير الأونكتاد الأخيرة). كما أنه بحسب كثير من الدراسات – وأنا متخصص في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر - تبين أن الاستثمارات الوافدة من آسيا أكثر إضافة للاقتصاد المضيف مقارنة بالاستثمارات الغربية والأمريكية، بمعنى أنها أكثر توفيراً لفرص العمل ونقلاً للتكنولوجيا وتدريباً لعناصر العمل في البلد المضيف.. إلخ.
ثانياً: فيما يتعلق بالاستثمارات المحلية وتراجع شهيتها بفعل الأزمة، وما يرتب على ذلك من تأثيرات سلبية في مشاريع المدن الاقتصادية، ينبغي تبني سياسات تستهدف حفز الاستثمار الوطني، وعودة رؤوس الأموال المهاجرة، لاقتناص الفرص المتوافرة في هذه المدن، من خلال حل معضلة الائتمان والحفاظ على مستويات متدنية للتضخم، وتحريك وتفعيل برامج وخطط الإنفاق العام، ودعوة المستثمرين لمعارض مكثفة بشأن الفرص الاستثمارية التي توفرها هذه المدن.
ثالثاً: أما فيما يتعلق بتراجع الصادرات العالمية واحتمالات استمرار وتيرة تباطئها لفترة، فمعروف أن أغلبية المدن الجديدة لا تزال قيد التطوير، ولم تدخل أغلبية مشاريعها مرحلة الإنتاج بعد، ولكن ولمواجهة هذا التحدي (على المدى البعيد) يلزم تبني استراتيجية تصدير بديلة تركز على التوجه نحو أسواق جديدة، وفي الوقت نفسه تعزز احتياجات السوق المحلية فاستراتيجية الإنتاج من أجل التصدير Export-oriented Strategy التي تبنتها أغلبية الدول الناهضة هي قيد المحاكمة والمراجعة الآن، والصين أول من بدأ التفكير في مراجعة تلك الاستراتيجية، التي اضطرتها لتصبح الدائن الأكبر لحكومة الولايات المتحدة (أذون الخزانة) بأكثر من تريليوني دولار.
رابعاً: على المستوى التنظيمي، يلزم إجراء مراجعة شاملة من قبل جميع الجهات القائمة على تنفيذ تلك المدن للتعرف من كثب على التحديات والفرص ومن ثم تبني استراتيجيات جديدة تضع في الاعتبار هذا المتغير الجديد. فلا يمكن أن نقول إنه لن يؤثر، وهنا أتذكر مشروع توشكي أو قناة توشكي في مصر، الذي تكلف المليارات، ولكنه سرعان ما فقد بريقه، وسرعان ما تصاعدت الاتهامات بشأن أسباب التأخر في الإنجاز. فجميل أن نطمح، ولكن الأجمل أن تكون طموحاتنا مبنية وقائمة على أسس علمية وواقعية لضمان الإنجاز. والله الموفق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي