الرقم المميز حتى في الولادة..!
قبل أيام كنت في مستشفى الولادة, وكان بجانبي أحد الإخوة المواطنين, فحدثني بحرقة عما كان يعانيه هو وزوجته منذ يومين, متنقلاً من مستشفى إلى مستشفى دون أن يغمض لهما جفن, ثم قال بصريح العبارة: ''كل هذا بسبب زوجتي التي أصرت أن تلد في يوم 9/9/2009م؛ من أجل هذا التاريخ المميز..!'' ثم ولدت بعده في نهاية اليوم التالي, وبعملية قيصرية..! ثم قال الزوج عبارة فحواها: يا ليتها رضيت بقضاء الله, ولم تتكلف البحث عن المظاهر في مثل هذا الظرف..!
ولقد فوجئت حقيقة بهذا الموقف الذي ذكره لي الزوج نفسه بسند متصل, ولم أكن أظن أن الوله في الرقم المميز يصل إلى هذا الحد, ولم أتصور يوما أن تبحث المرأة عن المظاهر والمباهاة بأمور تافهة حتى في يوم ولادتها التي تشرف فيها المرأة على الهلاك! لا سيما أن تجاهل المرأة للأسلوب الطبيعي للولادة, وتدخلها في تحديد موعد ولادتها عبر الطلق الصناعي, يزيد من معاناة المرأة أثناء الولادة, وقد يعرض جنينها لاختناق أثناء خروج المولود؛ بسبب ضعف الطلق - كما هو معروف طبياً - بل ربما يقلل من فرصة ولادتها الطبيعية, ويزيد من هامش ولادتها جراحيا, والمرأة العاقلة في غنى عن تعريض نفسها لهذه المخاطر (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة, إن الله كان بكم رحيما)، والمدهش أن ينساق الزوج وراء إلحاح الزوجة اللاهثة وراء عبثية الرقم المميز, وهو يملك بحكم فحولته مخزونا من رجاحة العقل, فيختبئ هذا المخزون وراء عاطفة المرأة لكل ما هو مثير للأنظار..!
وكم هو محزن أن تصل اهتمامات بعض بني أو بنات جلدتنا إلى هذه الدرجة من السخف, ولهذا لم يعد مستغرباً أن نسمع عن شراء لوحة سيارة بآلاف الريالات, وفي بعض البلدان المجاورة بالملايين..!
لا أنكر إطلاقاً أن بعض الأرقام المميزة فيها منفعة مباحة للمشتري, كالأرقام المميزة للهواتف الثابتة والنقالة, ولا سيما إذا كانت هذه الأرقام لشركة أو مؤسسة تجارية, تتخذ من هذا الرقم المميز أداة سهلة لاتصال العملاء بها, ولكن ما أنكره, وتستهجنه الشريعة الإسلامية أن يكون الرقم المميز للمباهاة ولفت الأنظار, ويدفع من أجل ذلك آلاف الريالات, وهو من إنفاق المال في غير موضعه (ولا تبذِّر تبذيراً..) والتبذير بمعنى الإسراف, وقيل بينهما فرق, ليس هذا موضع بسطه. والغريب أن بعض الأرقام المميزة كان لها حضور حتى في المشهد التاريخي والسياسي, حتى إن بعض الناس توقع نهاية العالم عام 2000م, وبعض المثقفين توقع حدوث أمور غير عادية في ذلك التاريخ, وأثبتت الأيام أن تلك التوقعات مجرد خرافة, لا غير, ولا تزال الخرافة قائمة, حيث يسوّق بعض الخرافيين أن نهاية العالم ستكون بتاريخ 21/12/2012م (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله..)
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
لماذا لا نبحث عن التميز في أنفسنا, بدلاً أن نبحث عنه في أرقام لا تضيف شيئاً لحياتنا العملية..؟
لماذا لا نبحث عن الأرقام المميزة في ميزانيات بعض دوائرنا الحكومية, والتي لم تضف مع تميزها - كأرقام فلكية - شيئاً يذكر لنهضتنا الحضارية؟ فنطالب إثر ذلك بمحاسبة المسؤول, ومساءلة المباشر والمتسبب.
لماذا لا نبحث عن الأرقام الكثيرة لأعداد البطالة, ممن يتأهل بعضهم للسرقة بفعل الحاجة والفراغ وضعف الإيمان؟ فنسعى لسد العوز والحاجة لهؤلاء البطالين عبر توظيف الأكفاء من هؤلاء, حتى نسهم في تخفيف البطالة إلى رقم مميز يبلغ الصفر, أو لنكون أكثر واقعية.. بالحد منها لتبلغ الأرقام خانة العشرات, لا الألوف..!
لماذا لا نبحث عن الأرقام المتصاعدة لأعداد الفتيات اللاتي يمارس ضدهن الابتزاز أو العنف الأسري؟ فنشارك بأموالنا وثقافتنا الإسلامية ببث برامج إعلامية راقية, ودورات تدريبية ناضجة للأسر والمقدمين على الزواج, من أجل الوقاية أو المعالجة لهذه الممارسات البشعة, حتى نسهم في إنهاء هذه المعاناة بالرقم صفر, لا أكثر.
لماذا لا نبحث عن الأرقام المتنامية لأعداد السجناء؟ من أجل دراسة هذه الظاهرة, ووضع الحلول لها عبر لجان متخصصة وأمينة, حتى نسهم في تخفيف هذه الأعداد إلى رقم مميز, يلفت أنظار العالم, كما لفت نظرهم تناقص أعداد الحوادث الإرهابية في بلادنا, والتي يخبو أثرها عاما بعد عام, بفعل الأسلوب الناجح للمناصحة في معالجة هذه الظاهرة.
لماذا لا نبحث عن الأرقام المهولة لأعداد الفقراء في العالم؟ فنسهم بما نستطيع من أموالنا عبر القنوات المسموح بها؛ لنمد يداً حانية إليهم بالدعم والمؤازرة, فنكفكف عبرة فقير, أو أرملة, أو يتيم, ونحد من الفقر في بلادنا أولاً وفي العالم ثانيا بأرقام مميزة, تتجاوز الحد المألوف, وننشر بثقافة القدوة الحسنة أن الإسلام دين الرحمة والعطف والإحسان.
لماذا لا يغيّر المعادلة أرباب البحث عن الرقم المميز؟ فيشاركون – مثلا - عبر جمعية خيرية رسمية, بكفالة سنوية لـ: 3 أيتام, و3 أرامل, و3 فقراء, و3 دعاة يعلمون الناس الخير, وهذا الرقم المميز- أو غيره - هو الذي ينفع في الآخرة, ويبارك بالمال في الدنيا.