كوريا الجنوبية مثال اقتصاد المعرفة

توقفت طويلا عند خبر قرأته في إحدى الصحف أشار إلى أن شركة سامسونج في كوريا الجنوبية حققت إيرادات بلغت 32 مليار دولار خلال ستة أشهر، ومن المعلوم أن شركة ساموسونج لا تعمل في مجال الموارد الطبيعية، أي أنها لا تعمل في مناجم الذهب أو استخراج البترول، أو في الأخشاب التي تستخرج من الغابات التي تنمو على الأمطار، بل إنها تعمل في مجال الإلكترونيات كالتليفزيونات، والفيديو، ووسائط العرض.استوقفني الرقم لأنه رقم كبير في نظري أن تكون موارد شركة واحدة في بلد واحد بهذا الحجم خلال ستة أشهر, أي أن الإيراد السنوي 64 مليار دولار وهذا الرقم يعادل 240 مليار ريال سعودي. ولو قارنا هذا المبلغ بميزانيات بعض الدول لوجدنا البون شاسعاً لمصلحة شركة في كوريا الجنوبية بلا شك أن إنتاج هذه الشركة وغيرها من الشركات العاملة في ذلك البلد تصدر جزءاً كبيراً من صناعاتها إلى دول أخرى مما يحقق دخلاً كبيراً من العملات الصعبة للوطن, وهذا بدوره يرفع من مستوى الاقتصاد الوطني ويزيده متانته، لأن بضائع الوطن تجد أسواقا تستقبلها, ولا تعاني الكساد.
شركة KIA هي إحدى الشركات الكورية الجنوبية المتخصصة في صناعة السيارات, وعندما بدأت تصدير منتجاتها لم تجد سياراتها ذلك الإقبال لكن مع الوقت أصبح كثير من الناس يقبلون عليها ويقتنونها لاعتدال أسعارها وصغرها, وهذا يوفر في استهلاك البنزين, وقد فرضت نفسها في السوق كمنتج معتبر للسيارات ومنافس للشركات الأخرى سواء اليابانية أو الأمريكية أو الأوروبية. شركات كوريا الجنوبية لا تقتصر على هاتين الشركتين, بل شركة هونداي الشهيرة في إنتاج السيارات وشركة دايو وشركات التشييد والبناء, التي كان لها دور بارز في بعض مشاريعنا في أيام الطفرة الاقتصادية التي مرت بها البلاد في التسعينيات من القرن الهجري الماضي, كلها تسهم في تحريك العجلة الاقتصادية لذلك البلد الذي أصبح يفرض نفسه على الساحة الدولية في المجال الاقتصادي. حاولت أن أعرف إيرادات بعض الشركات المشهورة في كوريا الجنوبية بهدف الخروج بصورة تقريبية عما تسهم به هذه الشركات في الناتج القومي الكوري لكن لم أتمكن من ذلك, وذلك بهدف مقارنة الناتج القومي لكوريا بغيرها من الدول التي تعتمد في اقتصادها على استخراج واستنزاف الموارد الطبيعية المتوافرة لديها في هذه المرحلة من التاريخ وستنفد حتماً في يوم من الأيام. في تقديري أن إنتاج هذه الشركات يمثل دخلاً ضخما يتجاوز بشكل كبير موارد كثير من الدول التي تعتمد على الثروات الطبيعية كالبترول, الحديد, والذهب, وأخشاب الغابات.
ما يهمنا في هذا هو أن كوريا, وإلى وقت قريب لا يتجاوز ثلاثة عقود لم يكن أحد يسمع بها إلا من خلال الحرب الكورية التي بموجبها انفصلت إلى كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية بنظامين سياسيين مختلفتين, لكن التوجه الكوري الجنوبي المدني قادها إلى هذا الوضع الذي احتلت فيه مركزا مرموقا من الناحية الاقتصادية بفضل شركاتها التي أبدعت وأنتجت وتجاوزت الحدود, لتشكل معلماً بارزاً يشار إليه بالبنان عند الحديث أو الكتابة بشأن نمو المجتمعات وتطورها, أما جارتها كوريا الشمالية فبحكم توجهها العسكري فقد احتلت موقعاً في مجال التصنيع العسكري من صواريخ ومفاعلات نووية وعتاد حربي يتم تداول أخباره عبر وسائل الإعلام.
ما الذي جعل كوريا الجنوبية تحقق هذه النجاحات الاقتصادية من خلال ما نجده في أسواقنا وأسواق دول أخرى كثيرة من البضائع تحمل «صنع في كوريا الجنوبية»؟ ما من شك في أن هذا التقدم في المجال الاقتصادي لم يأت من فراغ ولم يأت من استثمار مباشر لموارد طبيعية لكنه حدث بفعل استثمار العقول والموارد البشرية التي تعلمت في الجامعات والمعاهد العليا, وخضعت للتدريب حتى أبدعت فكراً, وحولت هذا الفكر إلى منتج مادي يستفيد منه الإنسان في مواصلاته, أو في إنجاز أعماله اليومية, أو في التربية, أو في مجالات الحياة كافة. الكوريون لم يكتشفوا العربة, بل أعادوا تصنيعها بحجم وشكل ولون وقوه تختلف, وبذا قدموا بضاعتهم للعالم ولشعبهم.
تحولت كوريا الجنوبية إلى أنموذج يشار له بالبنان عند الحديث عن التنمية الاقتصادية, مثلها مثل اليابان التي تتشابه معها في كثير من العوامل كندرة الموارد الطبيعية, والخروج من حرب مدمرة, وموقع جغرافي مماثل, وفي ظني أن الاستفادة من خبرات الآخرين وتوجيه الموارد وتوظيفها بشكل صحيح ووضعها في الأماكن المناسبة, تمثل أسبابا لهذا التطور والنمو, لكن عوامل أخرى تتمثل في البناء النفسي الناتج من التربية مثل التحرر من حالة العجز , واستبدالها بشعور القدرة والتحرر من التبعية, وإن كان في شقها الاقتصادي فقط, إضافة إلى مناخ الحرية العام الذي يشجع على التفكير والإبداع والمحاولة وتقديم المبادرات, كل هذه عوامل أسهمت في التفوق الاقتصادي الذي تشهده كوريا الجنوبية القائم على معرفة متقدمة.
أعرف أسرة عانت الفقر فترة من الزمن لكنها ورثت مالاً وفيراً قبل ما يزيد على 35 سنة لكن لعدم حسن التدبير تسابق أبناؤها على صرف المال على أوجه غير مناسبة, وخلال سنوات محدودة نفدت هذه الثروة من أيديهم, وعادوا إلى سابق عهدهم في قلة ذات اليد, وهذا المثال الواقعي يؤكد الحاجة الماسة على مستوى الأفراد, والأسر والدول إلى حسن استثمار الموارد المادية والبشرية حتى لا تضيع وتتبدد في أمور أقل أهمية, وأقل قيمة من بناء الأمم والمجتمعات وسعادة الأسر والأفراد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي