كلنا «مستهلك» .. فمن القدوة؟
إن مثل الدراسات التي نوهت عنها في المقالة السابقة ''أي شرائح المجتمع تجعلنا أكثر الشعوب استهلاكاً؟'' جعلتنا نستهلك الوقت والورق ووسائل الاتصال بتحميل المستهلك عبء حماية وتوعية نفسه؛ كالتأكد من تواريخ الإنتاج ومدد الصلاحية وعلامات الشركات الكبيرة وجيدة المنتج, والبحث عن البديل دائما ومراجعة فاتورة البيع وحفظ الوصل لإثبات الواقعة، وترشيد الاستهلاك والقيام بكذا وكذا. ولكن نسينا ما يجب على التاجر أن يلتزم به ويؤديه من مسؤولية إنسانية واجتماعية وقانونية يحاسب عليها هو أيضا. إن نحو 80 في المائة من البقالات ومحال البضائع الاستهلاكية الصغيرة وغيرها من نقاط البيع لا يحفظ حق المستهلك بتسليمه إيصال الشراء، بل إن أجهزة الاتصالات الفضائية ما زالت تباع دون إيصالات، ولدى المستثمر في كل الأحوال أعذار عديدة. ألا يستحق هؤلاء أن توجه لهم الأقلام والرقابة ويطبق في حقهم الأنظمة واللوائح حماية للمستهلك؟
في مثال آخر، يقال إن الاحتفاظ بما يثبت الواقعة يمكن من إعادة الحق إلى صاحبه، فكيف تثبت واقعة ضعف أو انقطاع خدمة الإنترنت على مدار اليوم؟ أو التأخير ''المتكرر'' انتظارا للرحلات الجوية الذي يصل إلى تسع ساعات في المطار؟ طبعا إذا ما اضطر الفرد إلى شراء مقعد على خطوط أخرى في مثل هذه الحالات لا يستطيع استعادة مبلغ التذكرة التي لم يتمكن الاستفادة منها, فهل المستهلك هنا شره ولديه طاقة شرائية كبيرة عندما اختار البديل؟ وكيف يمكن حمايته؟ أما من ناحية جودة المنتج والمخرج فتورد للمملكة سلع مخالفة في تصنيعها الاشتراطات الصحية مثل بعض أحبار الطابعات أو القوارير البلاستيكية التي منها رضاعات الأطفال, حيث يدخل في صنعها مواد مثل BPA، أو الكريمات المخصصة للسمرة أو المضادة لحرارة أشعة الشمس، وملونات الأغذية التي اتضح طبيا أنها تسبب النشاط الزائد لدى الأطفال، وغيرها من السلع, فهل على المستهلك أن يتابع نشرات هيئة الدواء والغذاء العالمية والمحلية ونشرات المواصفات والمقاييس ونشرات منظمة التجارة العالمية ... إلخ ليحمي نفسه دون أن يعوض عن أي ضرر لحق به؟ لقد تأكد الآن أن الثقافة الحقوقية ضعيفة، وإثبات الواقعة إجراء يصعب بل هو من أضعف الحلقات في قضية حماية المستهلك، والتكامل بين الجهات المعنية لتفادي ازدواجية القرار أو التنفيذ أصبح ضرورة ملحة. لذلك لا بد أن نسعى إلى إيجاد سياسات وإجراءات وآليات تساعد وتسهم في إثبات الحق ولا تعتمد على شهود أو مقولات شفهية وثقة قد تؤدي بالمشكلة إلى عكس نتائجها, وهيهات لنا أن نثبت شيئا صحيحا بعد ذلك. كما لا بد أن يهتم عند نشر أي دراسة اقتصادية أو اجتماعية عن وضعنا الاستهلاكي -في أي موقع - بماهية المشكلة المراد مناقشتها وعلاجها، وحجم العينة، وأين تمت هذه الدراسة في مناطق المملكة؟ ومتى تمت؟ وأي منهجية استخدمت للدراسة وجمع البيانات؟ لأني كمستهلك ومستخدم ومستفيد سأعلق قبول ما ينشر حتى القناعة والثقة بما يصدر وينشر. هذا يحتم وجود علماء النفس والاجتماع في الدراسات الاقتصادية وتكثيفها خلال السنوات الخمس المقبلة، حيث أعتقد أننا سنكشف خواص ومزايا لتركيبة مجتمعنا, كنا قد اعتقدنا أننا فهمناها من قبل وما زال أمامنا وقت لاستيعابها بشكل أفضل. أيضا تكثيف الغرف التجارية معارض المنتجات الوطنية على مستوى المملكة بكاملها ومصاحبة ذلك بعرض ونشر ما يستجد في أنظمة وحماية المستهلك بكل الوسائل وخلال فترات متقاربة على مدار العام سيجعل هذه المؤسسات خير ممثل للقطاع التجاري. كما سيكثف ذلك بطريقة غير مباشرة تعاون الجهات المعنية مثل هيئة الغذاء والدواء وهيئة المواصفات والمقاييس والوكالة في وزارة التجارة مع الأمانات في المناطق وهيئة ضبط الغش التجاري واللجان المشكلة في باقي القطاعات الخدمية، والجمعيات العلمية السعودية المتخصصة، للخروج بما يخفف على الناس وطأة الحياة عليهم.
إن موضوع الاستهلاك متعدد الركائز وحصره في دائرة اقتصادية دون التطرق للنواحي الاجتماعية والثقافية وبالطبع الدينية يجعل الاقتصاديين يتفننون في تعديد شرائح المجتمع في كل عقد من الزمان, بل يمكن أن يجعلهم متراخين في الاعتداد بنسب التضخم المتزايدة وغير المستقرة, ما يضر بمستقبل الطبقة الوسطى أو الفئات البسيطة من المجتمع. هذا إضافة إلى أضرار أخرى لها علاقة بمجالات وزوايا لا يسع المجال لذكرها. من وجهة نظري الخاصة الكل مسؤول ولا أقصي المفكرين والكتاب من المسؤولية، ولا بد من التحرك جماعيا وليس فرديا أو شرائحيا, فنحن الآن أمام مشكلة اتباع قدوة، فلو أحسن الوالدان ومديرو المدارس ورئيس الشعبة ومدير الإدارة أو رئيس مجلس الإدارة وهكذا، في قيامه بدوره تماما، وعرف كيف يراجع إنتاجيته مع نهاية كل يوم أو أسبوع أو شهر وعام، لكانت نهاية مأساة المستهلك لدينا نهاية العام المقبل على أكثر تقدير ـ بإذن الله، ولاستطعنا استغلال الفضاء في القيام بالأبحاث الاقتصادية التي تعيد بعض أهم الحسابات الاقتصادية كما نهجت جامعة براون الأمريكية هذا الطريق أخيرا، ويعتقدون أن كثيرا من المفاهيم في علم الاقتصاد قد تتعدل إذا ما أثبتت صحة هذا الأسلوب من الدراسة والبحث. والله الموفق.