رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


شهر العبادات لا شهر الأكلات

صحيح أن شهر رمضان المبارك هو شهر مميز واستثنائي، فهو شهر الفضيلة والعبادات والأجر والثواب المضاعف والصوم، والذي جزاؤه العظيم عند الله، الشهر الذي كرمه الخالق الباري بأن أنزل فيه القرآن الكريم، وخصه بليلة هي خير من ألف شهر، والشهر الذي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ولكن جني رحمته ومغفرته وعتقه من النار، وكسب جل ما في هذا الشهر من خيرات، لا يتأتى من خلال عادات سميناها رمضانية ولا علاقة لها برمضان، عادات في الطعام والأكل والشرب والسهر وأنشطة لا رابط لها بروحانية هذا الشهر الكريم شهر العبادات. حين تقترب أيام رمضان ينكب الناس على الأسواق لشراء كميات من أنواع الأطعمة والمشروبات، والتي لا تستهلك إلا في رمضان، وتعمل منها مأكولات ومشروبات تسمى رمضانية، وكأن أكلها في غير هذا الشهر الكريم لا يجوز ولا يطيب ولا يستساغ، ولا بأس في أن يأكل الناس في رمضان، ولكن البأس في أن نجعل من بعض الأكلات والمشروبات لها خصوصية برمضان وحده دون غيره، ولا يعلم ولا يعرف في الأثر توصية بأكلات لا تؤكل إلا في رمضان ولا تطيب إلا فيه. وهذه المبالغة في شراء الأطعمة والمشروبات مدعاة للإفراط في تناولها، وهو ما يحذر منه الأطباء، فعند الإفطار تجد الموائد عامرة بكل ألوان الطعام والشراب وخاصة الدسم منه وعالي السعرات الحرارية، وحتى تناول القليل منه على معدة خاوية يؤدى للإصابة بالتخمة، ويتضرر منها المصابون بأمراض مزمنة كالسكري والضغط اللذين تضاعفهما هذه الأكلات، بل وصل الأمر بكثير منا بجعل أكلات معينة لها خصوصية رمضانية غريبة وعجيبة بحيث لا يشعر البعض بصحة إفطاره إلا بها، وخذوا مثلا الفول أحد أشهر وأهم الأطباق الرمضانية، وما أدراك ما الفول في رمضان، فهذا الطبق المشهور بأنه طبق الفقراء، يعز في رمضان وتصبح له مكانة رفيعة حتى لدى الأغنياء، وتتحول بعض أماكن بيعه المشهورة لمواقع عراك وتنافس وصراع محموم للحصول على طبق منه، ومن سخريات الفول هذا أن دوريات المرور والشرطة ترابط عند تلك المحال لفك الاختناقات وفض المنازعات!.
حديثي هذا لا علاقة له بما هو حلال وحرام فيما يخص هذه الأكلات، ولكني أردت القول بأن هذه الهوجة الرمضانية صوب الاهتمام بما سنأكل في رمضان، لا تصب إلا في جيوب التجار، فالتجار هم الكاسب الوحيد من هذه الحمى الشرائية التي تصيبنا في رمضان، فهذا الشهر من أهم مواسم بيع السلع الغذائية المختلفة، حيث ينكب الناس على المحال التجارية للشراء وبكميات كبيرة. وشاهدنا كيف كانت الصفوف طويلة عندها وكأن البلد مقبلة على مجاعة أو تهديد ما لا قدر الله، وخلالها يستغل ضعاف النفوس من التجار وما أكثرهم برفع الأسعار وهم ضامنون تصريف ما لديهم من بضائع. الناس يريدون تكديس بيوتهم بكل ألوان الطعام والشراب استعدادا لشهر رمضان الذي نعرف أنه شهر عبادات وليس شهر أكلات، والطامة الأكبر أن كثيرا مما يشترى ينقضي رمضان دون أن يستهلك، ونسبة مما يطبخ يذهب إلى صناديق القمامة، وبهذا نكون قد حولنا شهر رمضان من شهر عبادات ومنها الزهد في الطعام والإكثار من الصدقات على الفقراء الذين لا يجدون ما يسد رمقهم في شهر الصوم ولا في غيره، إلى شهر أكلات متنوعة ومشكلة.
ومن العادات التي تمارس في رمضان أكثر من غيره ومما لم ينزل بها الله من سلطان، تحويل نهاره لخمول وكسل ونوم وقلة إنتاجية، بل تجد هناك من يبالغ في إظهار تأثره بالصيام معاناة لا عبادة، وحين يهبط المساء ينشط ويسهر حتى ما بعد صلاة الفجر، ويا ليت هذا السهر يقضى معظمه في قيام الليل، بل يصرف في ملاحقة المسلسلات والبرامج المتلفزة وغالبيتها لا علاقة لها برمضان هي الأخرى، ويا ليت لمعظمها مضامين هادفة وجادة وذات قيمة، بل كثيرها عبارة عن فكاهة سمجة وسطحية، أو دراما مغرقة في السوداوية، أو برامج لا تضيف للمشاهد شيئا.
ومما يستغرب له فعلا أن شبابنا، بل وبعض شيبنا، لا تأتيهم همة ممارسة الرياضة إلا في رمضان، فتجدهم في وقت العصر يمارسون لعبة كرة القدم، وفي المساء تلعب الكرة الطائرة، وحين ينصرف الشهر الكريم يتركون الرياضة أو لا يعودون يمارسونها يوميا كما كانوا يفعلون في رمضان.
الشاهد من ذلك كله هو أنه لا بأس في أن نأكل في رمضان ما لذ وطاب ونشاهد التلفاز ونمارس الرياضة، فلم أسمع بأنها من المحظورات والمحرمات لا في رمضان ولا غيره، ولكن المأخذ هو في الإفراط فيها في هذا الشهر تحديدا، وشغله بما ليس له علاقة بالعبادات الخاصة به، فيا ليتنا نعيد لرمضان روحانيته الحقة، وننصرف فيه عن أمور حياتية يمكن أن نمارسها في غيره من الشهور. نريد جعل رمضان فعلا مميزا واستثنائيا بأن نكثف فيه أداء العبادات وتنمية التراحم والتواصل وأعمال الخير, شهر نلتقط فيه الأنفاس من مشاغل الدنيا وننصرف فيه إلى الله وحده، فقد أكرمنا سبحانه بشهر ننهل فيه من خيراته لآخرتنا، لا أن نصرفه في التفكير فيما سنأكل ونشرب ونتسلى ونلعب ونلهو.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي