رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تصورنا للترشيد من أجل مستقبل أفضل؟

نحن كثيراً ما نتحدث عن رغبتنا في الترشيد في بعض أمور حياتنا، والترشيد من أضداد الإسراف الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى بتجنبه. ولكن غالباً ما نحصر الترشيد في نواح ضيقة وذات تأثير محدود. فلو سألت مواطناً عادياًّ عن المجالات التي يراها مناسبة لتطبيق فكرة الترشيد فيها لما ذكر لك أكثر من مجالين، وهما استخدام الماء في المنازل والطاقة الكهربائية، وذلك بسبب التركيز من الجهات المختصة فقط على هذين المحورين. وهو شيء جميل أن نبث في روح المجتمع ثقافة الترشيد، فنحن فعلاً بحاجة ماسة إلى التقليل من استهلاكنا المفرط للماء في جميع شؤون حياتنا، خصوصاً أن استهلاك الفرد الواحد في بلادنا يُعتبر من أعلى المستويات في العالم، في الوقت الذي نعتمد فيه على المياه الجوفية القابلة للنضوب. ومن الملفت للنظر أننا نحصر برامج ترشيد الاستهلاك في الاستخدام المنزلي الذي لا تتعدى نسبته 10 في المائة من مجموع استهلاك الماء في المملكة، ولا نتحدث عن 85 في المائة من الاستهلاك الذي يُستخدم عشوائياًّ في الزراعة، ونسبة كبيرة منه تذهب هباء عن طريق التبخر. أما ترشيد الطاقة الكهربائية فليس أفضل حظاًّ من ترشيد الماء، بدليل أن الزيادة السنوية لاستهلاك الكهرباء تتجاوز 7 في المائة، بسبب تدني سعر وحدة الكهرباء التي تشجِّع على زيادة الاستهلاك المحلي.
ولكن عندما نتدبر عموم الترشيد الذي نحن بحاجة إليه في جميع شؤوننا، فيجب أن يشمل الإسراف الفاحش في استقدام العمالة الوافدة، ومعظمهم ممن يشغلون وظائف و مهام هامشية لا تُفيد البلد في أي شيء، مثل عمالة البيع و الشراء، واستهلاك مجتمعنا للمحروقات النفطية بكميات كبيرة وغير طبيعية، والأخير كان موضوع نقاش جدِّي وحاد على صفحات جريدة الاقتصادية على مدى عدة أسابيع. و كذلك الاتجاه الواضح والمتزايد في استخدام المركبات الثقيلة على الطرق البرية لنقل البضائع والواردات التي كان من الأجدى والأفضل نقلها بواسطة السكك الحديدية، والأعداد الهائلة من المحال التجارية الصغيرة و''الدكاكين'' العشوائية التي تملأ شوارع مدننا مع ما يُجلب لها من ملايين العمالة الأجنبية، والنمو السكاني المذهل الذي يُعدُّ من أعلى المستويات في العالم. فجميع هذه العوامل تشترك في استنزاف خطير لمواردنا الاقتصادية الحالية والمستقبلية.
وقد أصبحنا منذ بداية عصر النفط مع الأسف شعبا مستهلكا وغير منتج واتكالي إلى أبعد الحدود، نعتمد في معظم شؤون حياتنا على دخل سهل يأتينا دون تعب وعلى مجهود عمالة أجنبية تستفيد من التسهيلات الحكومية المتوافرة وترسل مُدخراتها إلى بلدانها الأصلية، وهذا شكل من أشكال الاستنزاف الاقتصادي الذي سنظل نُعاني منه. و لو توسعنا قليلاً، لقلنا إن تصدير المنتجات الزراعية المدعومة من قبل الدولة والمنتجات الصناعية التي تعتمد على الطاقة الرخيصة، ربما أنها ليست كلها في صالح اقتصادنا الوطني، مما يُوجب إجراء دراسة اقتصادية يُقيَّمُ فيها كل عنصر يدخل في صناعتها بالقيمة الحقيقية، وإذا ثبت أن مردود بيعها خارج المملكة إيجابي بالنسبة لمُجمل التكلفة، في تلك الحالة يُسمح بتصدير المُنتج.
ولعل أصعب مرحلة في عملية الترشيد، هي نشر الوعي الثقافي بين أفراد المجتمع فيما يختص بترشيد الاستهلاك وتنظيم الاستخدام لكل ما يمس حياتنا. وهذه مهمة صعبة و يحتاج تنفيذها إلى مجهود كبير وطاقات هائلة من الصبر والمثابرة وحسن التخطيط وبُعد النظر. وسوف يكون ذلك أكثر فاعلية عند ما نبدأ بالأبناء في مدارسهم لينموا حُبُّ الترشيد مع نموهم. ومجالات الترشيد التي ذكرنا معظمها مُتشعبة، وأغلبها سوف يستغرق تنفيذها بعد قبولها عقوداً طويلة وأجيالاً متتالية. والعبرة في عدم ترك الأمور تسير على ما هي عليه اليوم و احتمال انتقالها من سيئ إلى أسوأ، مما يُؤثر سلباً في مستقبل أجيالنا. ولا نعلم بوجود جهة معينة واحدة تستطيع أن تُحيط بجميع تلك العوامل و تعمل على التخطيط السليم للتعامل معها، مما قد يستوجب إنشاء هيئة مستقلة يكون هدفها دراسة وتنفيذ سياسة عامة للترشيد تعود على مستقبل هذه البلاد بالخير.
وليس هناك أكثر ضرراً على مستقبل أجيالنا الذين هم أفلاذ أكبادنا وأولادهم من تفشي عدم المبالاة السائد بيننا وعدم شعورنا بالمسؤولية تجاههم، وهو أمر واضح من تصرفاتنا وواقع حالنا. فمعظمنا يعيش حياة مرفهة، وتجده يطلب المزيد ولا يولي أدنى اهتمام لما يُشاهد ويُمارس من ظواهر الإسراف في المأكل والملبس وفي عموم شؤون الحياة. وقد كنا إلى عهد لا يتجاوز الـ 60 عاماً نعيش تحت وطأة شح شديد في مصادر المعيشة، ولم نكن نعرف من وسائل المواصلات إلا الجمل والحمار وذلك فقط لمنْ يسَّر الله عليهم. وبفضل من الله تدفق النفط في بلادنا وتغيرت معالم الحياة من حال إلى حال، ونشأ جيل جديد انغمس في رفاهية العيش وملاذ الحياة واعتمد على خدمة الآخرين له في معظم شؤون حياته وهو لا يريد أن يُدرك بأن لكل شيء نهاية، وأن مصدر دخله الحالي سوف ينقضي عمره إن عاجلاً أم آجلاً، ثم يجد هو وأولاده من بعده وضعاً ليس من السهل التكيِّف معه.
ومما يجعل التخلص من الإسراف الفاحش الذي نمارسه في كل مجال من مجالات حياتنا تحيط به الكثير من الصعوبات، هو كون حب الإسراف يجري مع الدم في عروقنا، على الرغم من أن تعاليم ديننا الحنيف صريحة في النهي عن الإسراف. وما علينا إلا أنْ نكون أكثر واقعية وتفهماً لمعاني الحياة الطبيعية، وألا نغتر بما لدينا اليوم وننسى ما يُخبيه لنا القدر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي