الأزمة انتهت .. ماذا عن أزمة المالية العامة؟
سبق أن أشرت في مقال سابق عن الأزمة المالية نشر قبل ثلاثة أسابيع إلى أنه وإن كان أسوأ ما في الأزمة المالية قد ولى، إلا أن التعامل مع مخلفات الأزمة سيؤدي إلى تأخير تحول مسار النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم أجمع. فالأزمة المالية تركت آثاراً وتشوُّهات كبيرة في الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء، ومعالجة ذلك تضع الحكومات بين مطرقة النمو وسندان الركود الاقتصادي. فحزم التحفيز المالي التي تبنتها الدول وآثار الأزمة في الإيرادات الحكومية ستؤثر في برامج التنمية والنمو كالتربية والتعليم والصحة وبرامج الرعاية الاجتماعية التي تستهدفها هذه الحكومات ومن ثم ستؤخر العودة إلى مسار النمو لما قبل الأزمة المالية.
ومن مخلفات الأزمة الرئيسية الأثر الذي ستتركه على المالية العامة الأمريكية، حيث تعاني الولايات المتحدة الأمريكية أكبر عجز موازنة في تاريخها تجاوز لأول مرة تريليون دولار. أضف إلى ذلك أمراً أسوأ ومن الصعب تجاوزه بسهولة وهو المالية العامة للولايات والحكومات المحلية الأمريكية التي تعاني هي الأخرى آثار الأزمة في موازناتها وتحاول جاهدة الخروج منها من خلال تعزيز مصادر دخلها للتعويض عن النقص في هذه الموازنات التي أثرت في برامجها التنموية، وفي بعض الولايات وصلت إلى عدم قدرتها على سداد رواتب العاملين لديها.
فالنظام الفيدرالي للولايات الأمريكية يجعل ميزانية الحكومة الفيدرالية (المركزية) منفصلة عن ميزانية الولايات، كما أن ميزانية الولايات منفصلة عن ميزانية الحكومات المحلية. وهذا يعني أن لكل ميزانية إيراداتها ومصروفاتها الخاصة بها، مع بعض المساعدات التي تأتي من الحكومة الفيدرالية إلى حكومات الولايات والحكومات المحلية. وهذا التقسيم معقد بطبيعته إذ يجعل من الصعب أحياناً التفرقة بين ما هو مصروف فيدرالي وما هو مصروف للولايات والحكومات المحلية، ومثال ذلك تكلفة إنشاء الطرق السريعة التي تمر بأكثر من ولاية وحكومة محلية، التي تناط تكلفة إنشائها بالحكومة الفيدرالية وتتحمل كل ولاية تكلفة إنشاء الخط المار بها.
وبالطبع نتيجة لهذا التقسيم فإن لكل ولاية وحكومة محلية مصدر الدخل الخاص بها والذي يأتي أساساً من الضرائب المحلية بمختلف تقسيماتها (ضرائب دخل، ضرائب ملكية، ضرائب أرباح، رسوم استغلال، وغيرها). وحصيلة هذه الضرائب التي تجنيها الولايات والحكومات المحلية تعتمد إلى حد كبير على النشاط الاقتصادي في الولاية أو الحكومة المحلية. فكلما زاد النشاط الاقتصادي في المدينة زاد إقبال الناس للعمل فيها وارتفعت بالتالي أسعار العقارات بها، ومن ثم زادت حصيلة ما يتم تحصيله سواءً من هذه العقارات (ضريبة ملكية) أو ما يتم تحصيله من ضريبة دخل بسبب زيادة عدد الأفراد القادمين للعمل في المدينة أو بسبب زيادة دخل المصانع والشركات العاملة بها.
لكن الأثر الذي تركته الأزمة على النشاط الاقتصادي في الولايات والحكومات المحلية الأمريكية سيجعل من الصعوبة بمكان توفير إيرادات كافية لتمويل الأنشطة الاقتصادية فيها، فهناك مصانع كثيرة أقفلت (نقص أرباح الشركات) وتسريح كبير للعاملين (نقص ضريبة الدخل) وانخفاض في أسعار العقارات (نقص في ضريبة الملكية)، ما أدى إلى انخفاض عائدات هذه الحكومات. وتأثير ذلك يأتي بشكل مباشر في أنشطة مهمة كالتعليم العام الذي يعتمد بشكل كبير على عائدات ضريبة الملكية كمصدر أساسي لتمويله، وانخفاض عائد ضريبة الملكية سيؤثر بشكل كبير في أنشطة التعليم العام في الولايات والحكومات الأمريكية المتأثرة بالأزمة.
الصورة قاتمة بالنسبة للولايات التي انخفضت عائدات الضريبة فيها في النصف الأول من عام 2009 بما نسبته 12.6 في المائة وبانخفاض تقدر قيمته بـ 20 مليار دولار أمريكي، كما أن عائدات الحكومات المحلية من الضريبة في أسوأ وضع لها خلال 50 عاماً. وتعد ضريبة الدخل هي الأكثر تأثراً حيث انخفضت عائداتها بما يقارب عشرة مليارات دولار على مستوى الولايات الأمريكية وبما نسبته 15.8 في المائة، وبالطبع نسبة كبيرة من هذا التراجع أتت من زيادة معدلات البطالة بشكل كبير من ناحية، ومن ناحية أخرى من تزايد خسائر الأصول مما يؤدي إلى تخفيض قيمة الضريبة المستحقة بقيمة هذه الخسائر، وبالتالي مفاقمة الأثر السلبي في عائدات الضريبة للولايات والحكومات المحلية الأمريكية.
ماذا ستفعل الولايات والحكومات المحلية؟ ستقوم بالطبع بزيادة نسب الضريبة للتعويض عن فجوة الإيرادات التي حدثت بسبب الأزمة وهذا سيضغط بالطبع على دخول المواطنين وسيحد من قدرتهم على الاستهلاك، ومن ثم سيؤخر عودة النمو الاقتصادي الأمريكي إلى مسار نمو ما قبل الأزمة. أضف إلى ذلك، أن التاريخ يؤكد أن مثل هذه الأزمات تؤدي بالولايات والحكومات المحلية إلى البحث عن أي مصدر محتمل للدخل كزيادة الرسوم على استخدام الطرق أو الرسوم على الخدمات المحلية أو غيرها من الرسوم كما تؤدي إلى تأخير تنفيذ الكثير من برامج الإنفاق الرأسمالي التي تشكل مصدراً مهماً لتعزيز النمو والتوظيف في الولايات. هذه فقط أمثلة على أثر الأزمة في المالية العامة ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تمثل وضعاً مماثلاً في كل الدول تقريباً، خصوصاً تلك الدول التي تتميز بنظام فيدرالي كأستراليا وألمانيا وغيرها والتي ستواجه صعوبات مماثلة للتخفيف من آثار الأزمة المالية في الموارد المالية للحكومات المحلية. وعندما يتم تناول الأزمة المالية يتم التركيز فقط على القضايا المتعلقة بالاقتصاد الكلي والمالية الدولية ويتم تجاهل القضايا المتعلقة بالمالية العامة التي تعد مصدراً أساسياً من مصادر النمو الاقتصادي، ما يؤدي إلى إعطاء تصورات مجتزئة عن الوضع الاقتصادي العالمي. لكن الواقع الذي تعيشه الحكومات المحلية في العالم يدل على أن هناك الكثير مما يجب عمله لإخراجها من براثن الأزمة وإلا فإن مسار النمو الاقتصادي العالمي سيكون بطيئاً جداً جداً.