رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المشكلة الإسكانية بين التمويل والقبول

كلما مررت بقرى نجد المتناثرة حول مدينة الرياض ورأيت مساكن الطين، ديار أجدادنا ومحل مولد ونشأة آبائنا التي يمتد عمرها إلى مئات السنين ولم يهجرها أجدادنا إلا قبل أربعة أو خمسة عقود من الزمان بعد الطفرة الاقتصادية، ورأيت مساحتها ومساحة غرفها ومجالسها وصالاتها، أدركت أن سعة الصدور تتجاوز سعة القصور، إذ لم تتجاوز مساحات تلك المساكن الـ 100 متر مربع في أحسن الأحوال ومعظم غرفها لا تتجاوز مساحاتها الأربعة أو الستة أمتار مربعة حتى إني أعجز عن فهم كيف كان يجلس الرجال في المجلس الذي لا تتجاوز مساحته في كثير من المساكن مساحة "المشب" في مجالسنا اليوم.
نعم، كانت الأسر السعودية تتقبل السكن في هذه المساكن ذات المساحات الضيقة لأسباب اقتصادية بحتة وهي في تآلف اجتماعي وتكافل منقطع النظير على عكس واقعنا اليوم، حيث سعة المساكن وضيق الصدور وضعف التواصل الاجتماعي حتى لا يعرف الجار جاره، وكلنا يدرك أن هذا الواقع مرتبط بالواقع الاقتصادي الذي انطلق سهمه إلى أعلى سريعا دافعا بسهم الواقع الاجتماعي إلى أسفل وبالسرعة نفسها، وللأسف الشديد بعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي.
فقيادتنا التنموية الرشيدة أرادت أن تنهض بالواقع الاقتصادي للمواطن السعودي الذي عانى أشد المعاناة قبل مرحلة النفط حيث ندرة الموارد الغذائية والمائية والصراع على لقمة العيش وشربة الماء فأنشأت الصناديق التنموية التي أقرضت المواطنين للنهوض بأحوالهم في أي قطاع أرادوا صناعيا كان أم زراعيا أم خدميا أم تجاريا، فضلا عن منحهم الأراضي وإقراضهم المال اللازم لبناء المسكن الملائم من صندوق التنمية العقاري حتى ارتفعت نسبة تملك المساكن في بلادنا في فترة وجيزة متجاوزة نسبة الـ 85 في المائة وهي نسبة تملك عالية جدا، حيث أصبحت كل أسرة سعودية تمتلك فيلا واسعة تتجاوز مساحتها في كثير من الأحيان 600 متر مربع ما جعل هذه المساحات وعدد الغرف ومساحاتها المسكن القياسي للأسرة السعودية ولا ترضى بغير الفيلا بديلا.
ونتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تداخلت بشكل متسارع عانت بلادنا اقتصاديا حتى تجاوز الدين الحكومي أكثر من 600 مليار، ولقد كانت الحروب الإقليمية (حرب العراق/ إيران، حرب تحرير الكويت) وانخفاض أسعار النفط لأقل من عشرة دولارات سببا كبيرا في ذلك. وإذا قارنا ذلك بالزيادة السكانية لأدركنا أسباب تراجع خطط التنمية في جميع المجالات بما في ذلك المجال الإسكاني، حيث بدأت نسبة تملك المساكن تنخفض شيئا فشيئا حتى أصبحت القضية الإسكانية مشكلة حالية ومستقبلية تتطلب حلولا تتجاوز الآلية السابقة القائمة على الأرض والقرض، حيث لم تعد هناك أراض قريبة مطورة، ولم يعد القرض الذي يستدعي الانتظار لسنوات طويلة يكفي لبناء "هيكل" منزل.
حكومتنا الرشيدة التي تشعر بنبض الشارع وتسعى إلى تحقيق متطلبات العيش الكريم لمواطنيها، إضافة لكل مقيم في بلادنا، واستجابة لكثير من الأطروحات التي تزايدت مع اشتداد أزمة السكن والتهام الإيجارات أكثر من ثلث دخل أرباب الأسر اتجهت لتفعيل عناصر قوى السوق العقارية عموما والإسكانية منها، على وجه الخصوص، لمعالجة المشكلة الإسكانية وذلك من خلال تشجيع التطوير الإسكاني باستكمال البنية التحتية المتمثلة في البيئة التنظيمية والتشريعية لصناعة قطاع العقار والمساكن، إذ اتجهت لمعالجة شح آليات تمويل الأفراد لشراء مساكن لهم بضمان دخولهم والمسكن المرهون لصالح الممول، حيث قامت مؤسسة النقد بالترخيص لأكثر من شركة تمويل عقاري، كما قامت هيئة السوق المالية بتأسيس السوقين الأولية والثانوية للصكوك وسمحت بالطرح العام للصكوك المدعومة بالأصول العقارية إضافة للطرح العام للصناديق العقارية، فضلا عن معالجة طول إجراءات الحصول على التراخيص اللازمة للتطوير العقاري.
الحكومة أيضا قامت بإنشاء "الهيئة العامة للإسكان" لتوفير السكن المناسب وفق الخيارات الملائمة لاحتياجات المواطنين، ووفق برامج تضعها الهيئة من بينها تيسير حصول المواطن على مسكن ميسر تراعى فيه الجودة ضمن حدود دخله في الوقت المناسب من حياته وزيادة نسبة تملك المساكن. وكلنا يعلم أن الهيئة في ظل المعطيات العالية لا خيار استراتيجي أمامها للقيام بدورها سوى التوجه لتفعيل قوى السوق استنادا إلى البنية التحتية التي استكملتها الحكومة لتحفيز السوق العقارية لإنتاج الكثير من الوحدات السكنية المتنوعة عالية الجودة والمتناولة سعريا وفق البدائل التمويلية التي تطرحها السوق المالية بما يمكن المواطن من شراء المسكن الملائم في الوقت المناسب من العمر بتحويل ما يدفعه من إيجارات شهرية إلى غير رجعة إلى أقساط شهرية تمكنه من امتلاك المسكن بمرور الزمن مع تحقيق عنصر الاستقرار النفسي له ولأسرته.
إلى أين تتجه المشكلة الإسكانية؟ أعتقد أنها تتجه إلى المزيد من التعقيد إذا استمرت هيئة الإسكان في تجاهل عناصر قوى السوق الإسكانية المحلية وعدم الاستفادة من البنية التحتية المؤهلة للتطوير والتمويل الإسكاني، والتوجه للاعتماد على قدراتها الذاتية لإسكان الأعداد المهولة من المواطنين المتقدمين حاليا ومستقبليا، وإذا استمر المواطن في عدم قبول المسكن الملائم لوضعه الاقتصادي كما قبل أجدادنا بذلك، خصوصا أني سمعت عن الكثير من المواطنين الذين رفضت شركات التمويل طلباتهم لأنهم طلبوا تمويل شراء مساكن لهم أكبر من قدراتهم الائتمانية ولو أنهم رضوا بالمناسب من المساكن لمولتهم تلك الشركات مما يشير إلى أن أحد عناصر المشكلة الإسكانية هو القبول بالواقع الاقتصادي للفرد وليس التمويل فقط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي