الماء والبترول .. الحياة والتنمية

الماء والبترول مادتان سائلتان، لنا في هذه البلاد قصة طويلة مع هاتين المادتين، الماء منذ أن أوجد الله الحياة هو سر استمرارها، وبقائها ونمائها، ولا يمكن تصور أي شكل من أشكال الحياة من دونه "وجعلنا من الماء كل شيء حي". علاقتنا مع الماء كعلاقة أي شعب آخر من حيث ضرورته وحتمية وجوده لاستمرار الحياة، لكن ندرة وجوده لدينا وقلة موارده, تجعلان منه مادة غالية وتتبوأ أو هكذا يفترض منزلة عالية في التخطيط والتفكير الاستراتيجي. أما البترول فهو أيضاً مهم في الحياة المعاصرة، حيث به تتولد الطاقة، وتسير المركبات، وتدار المصانع، وتبنى الطرق وتعبَّد، كما أنه يمثل أهم مصدر مالي لبلادنا، ولذا انخفاض أسعاره يؤثر في مواردنا ومن ثم يؤثر في مشاريعنا وخططنا التنموية. البترول يمثل عصب الحياة المعاصرة عندنا وعند غيرنا من الدول, خاصة الدول الصناعية التي تعتمد عليه في شؤون حياتها كافة.
لوفرة البترول في بلادنا أصبحنا محط اهتمام العالم، وذلك لأن بترولنا يدير مصانع الآخرين، ويشعرهم بالدفء وقت الشتاء القارس، وبه تتحرك سياراتهم وتقلع طائراتهم، هذه السلعة جعلت من المملكة وغيرها من الدول المنتجة, ذات مكانة عالية على الساحة الدولية، وأصبح كثير من الناس مهما كانت البقعة التي يوجدون فيها يعرفون بلادنا من خلال ربطها بالبترول، ووفرة إنتاجه، وإن كان هذا أمرا مفرحا فهو مؤسف حين تقتصر معرفتهم بنا على البترول، ويتناسى الآخرون ثقافتنا، وقيمنا، ودورنا الحضاري منذ القدم.
العلاقة بيننا وبين هاتين المادتين علاقة حياة وتنمية، علاقة الحياة مرتبطة بالماء، الذي هو سر الحياة، أما علاقة التنمية فهي مرتبطة بالبترول، ومن دون شك علاقة الحياة أهم من علاقة التنمية، لكن العنصرين مهمان لنا وضروريان وأصبح من الصعب تصور الحياة من دون بترول، ومن المؤكد من المستحيل تصور الحياة دون ماء. هذه العلاقة التي تربطنا بهاتين المادتين أوجدت علاقة بين المادتين, حيث إن الماء يستخدم في استخراج البترول من خلال ضخ الماء في آبار البترول، كما أن البترول يعد عنصراً أساسياً في استخراج الماء من الآبار، وفي الوقت الراهن في تحلية المياه التي أصبحت تمثل مصدراً أساسياً من مصادر المياه في البلاد.
دخلت عليه في متجره الكائن في مدينة زيوريخ في سويسرا، وأثناء تجولي داخل محله وتفحصي بضاعته سألني من أين أنت؟ فأجبته من المملكة العربية السعودية, فبادرني بالقول لديكم بترول كثير، وأنتم أغنياء، استقبلت حديثه هذا ببرود تام، ولم انفعل لكني أشرت إلى نهر يبعد عنا مسافة 300 متر، وقلت له لكن لديكم الماء، وهذا النهر أحد مصادره، فارتبك، وأحس أن حديثه معي لم يكن موفقاً هذا ما خلصت إليه، إذ إنه قال صحيح الماء تشربه لكن البترول لا يمكن أن تشربه. بعدما سمعت منه هذه العبارة بدأت أتحدث إليه عن وطني، وثقافتها، وقيمها وتاريخها، ومن حسن حظي أن المحل كان خالياً من الزبائن، كما أني وجدت منه رغبة في سماع ما أقوله، ثم عرجت على الماء، وذكرت له أن بلادنا فقيرة في هذه المادة الحيوية، وإن كان هو لا يدرك قيمتها وأهميتها نظراً لوفرتها في بلاده نتيجة الأمطار والأنهار والبحيرات الحلوة, فإننا، أو البعض منا يدرك أهميتها، ويرى أهمية بل حتمية وجود استراتيجية وسياسة تنظم الاستغلال الأمثل لهذا المصدر النادر بدلاً من ترك الحبل على الغارب لبعض الناس يسيء استخدامه مع ندرته وشحه.
تساءلت وأنا أتجاذب الحديث مع ذلك الرجل عن السر الذي يجعل القريب والبعيد يربطنا فقط بالبترول، ولا يعرف عنا إلا ثراء بلادنا في هذه المادة .. هل هذا عائد لضخامة إنتاجنا من هذه المادة ودورنا في منظمة "أوبك"؟ أم أن الإعلام والأفلام والسياسة رسمت هذه الصورة في الأذهان, فهذا الرجل ليس إلا واحداً ممن يحمل هذه الصورة ولا يعرف عنا غير البترول والجمل والخيمة في الصحراء؟ أم أن السبب ربما يعود إلى تقصيرنا في مد الآخرين وتبصيرهم بما في بلادنا من روائع ثقافية وجغرافيا متنوعة، وإن غلب عليها الصحراء لكن لهذه الصحراء سحر وجاذبية ربما لا ندركها نظراً لأننا نعيش داخلها, لكن الآخرين قد يرون فيها ملامح جمال لا نراها نحن، وهذا سر انجذاب بعض المستشرقين للصحراء وحياتها.
أعتقد أن الحديث مع الآخرين فن يجب أن ندرب أنفسنا عليه، ولذا فمن يغبطنا في ثروة البترول أو يحسدنا يمكن أن نرد عليه بالمنطق الذي يفهمه والطريقة التي يفكر بها، فهل الثروة المائية المتوافرة في أوروبا وأمريكا وكثير من الدول، وكذلك الغابات والخضرة التي تكسو كل شبر من تلك الأراضي، هل هذه ثروة في نظرهم أم لا؟ وهل من يغبطنا ثروة البترول لديه الاستعداد أن يمدنا بجزء من الثروة المائية المتوافرة لديهم؟ لا نريد كامل ثروتهم المائية ولا نصفها، بل ربعها أو خمسها. لقد ختمت حديثي مع ذلك الرجل الأوروبي بهذه العبارة، حيث قلت له: هل تعلم أننا نصلي في العام عدة مرات، وندعو الله أن يغيثنا وينزل المطر، نظراً لندرته في بلادي؟ لا شك أن ثروة الماء التي توجد في تلك البلدان هبة من الله لم يتعبوا في إنتاجها، واستخراجها من باطن الأرض كما نفعل نحن، لكنهم في الوقت ذاته يحافظون عليها وعلى نظافتها عكس ما هو لدينا, حيث الإسراف والعبث بالماء مع قلته وندرته، ومع إدراكنا هذا الوضع. ولذا لا بد من ضوابط قوية تحافظ على هذه المصادر القليلة حتى نجد ما نشربه، وتشربه الأجيال القادمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي