هل نحن في حاجة إلى كل هذه "الدكاكين"؟
تكتظ شوارع مدننا وقرانا بمئات الألوف من المحال التجارية الصغيرة والمتوسطة التي في الغالب يديرها وافدون، ونخص المحال التي لا يتطلب العمل فيها أي نوع من المهارات الفنية أكثر من معرفة ممارسة البيع والشراء وعد النقود. ومن المعلوم أن تلك المحال يمتلكها مواطنون كنوع من طرق استثمار الأموال، ويجلبون لها عمالة أجنبية تقوم بعملية البيع والشراء، أما على حساب الكفيل أو بتأجير المحل للوافد تحت مظلة كفالة المواطن المستأجر. ومن الواضح أن النظم المحلية تسمح بفتح المحال دون أي شروط أو عوائق، على الرغم من ممارسة البعض أنواعاً من التستر، تتعلق بالسماح للعمالة الأجنبية أن يكون لها حرية الاتجار والبيع والشراء لحسابها مقابل دفع مبلغ معين مُتَّفق عليه للكفيل السعودي في نهاية كل شهر. وبوجه عام، فإن الاستثمار عن طريق استقدام عمالة أجنبية مضارها الاقتصادية أكبر من منافعها أمر لا يجب أن يكون مقبولاً من أجل مصالح فردية.
وأول ما يلفت النظر هو أن هذه "الدكاكين" تُكوِّن منظراً غير حضاري في وسط مدننا، وتُسبب أزمات واختناقات في السير نحن في غنى عنها. و في أغلب الأحوال نجد الشوارع التي تؤوي تلك المحال مليئة بالمخلفات وقطع البلاستيك، مما يُرهق أعمال البلديات المسؤولة عن التنظيف. ولك أن تتخيل الجمال والهدوء في الشوارع الفسيحة لو لم تكن هذه المحال التجارية المتراصَّة موجودة من عرضها إلى طولها، ومقدار الفوائد المالية والاجتماعية التي سنكسبها لو تم الاستغناء عن أكثر من مليون ونصف المليون وافد، مع عدم الحاجة لعشرات الألوف من العربات التي يستخدمونها في أعمالهم وتنقلاتهم وتوفر مساكن كثيرة عند إخلائها منهم. وسيقل أيضا الضغط على المرافق العامة والسكن وأعمال البنوك والطاقة الكهربائية والمواد الغذائية واستهلاك الطاقة وما يبعثون به إلى بلدانهم من العملات الصعبة، وهي جميعها فوائد اقتصادية لا حصر لها. ونود هنا أن نستثني ولو لفترة ما الاستغناء عن الحرفيين الذين لديهم مهارات غير متوافرة في شبابنا، مثل أغلب أنواع الصيانة والخياطة والحلاقة وعمال البناء وما إلى ذلك. ويُفضَّل أن تكون هناك مجمعات للحرف المهنية في مواقع محددة من المدينة يسهل الوصول إليها. وبناء على ذلك، فلا تُمنح تأشيرات الاستقدام إلا لأصحاب تلك المجمعات وليس للأفراد.
وربما يحتجُّ أصحاب "الدكاكين" أنهم أحرار في الطريقة التي يستثمرون بها أموالهم، وهو أمر طبيعي، فكل إنسان مكفول له مستوى معين من الحرية. ولكن المواطن الصالح مطلوب منه أيضا أن يُضحِّي بجزء من مصالحه من أجل الصالح العام. وما هو حاصل اليوم في شوارعنا لا يمكن وصفه إلا بأنه فوضى، والمستفيد الحقيقي من الوضع الحاضر هو الوافد الأجنبي الذي لا يعدو عن كونه عالة على المجتمع وعلى اقتصاد البلد. ومما يجعل العمل في تلك "الدكاكين" مناسباً للعمالة الوافدة وغير مرغوب من ِقبل المواطنين، طول ساعات دوام العمل الذي قد يصل إلى 15 ساعة في اليوم، وعلى وجه الخصوص بالنسبة للذين يعملون لحسابهم الخاص من الوافدين.
وهناك أكثر من طريق لاستثمار المواطن فائض أمواله. فالكثير من الشركات التي تطرح أسهمها في السوق العام مفتوحة للجميع. كما أن إغلاق المحال المنتشرة في الشوارع العامة سيُتيح المجال لتكوين شركات صغيرة ومجمعات تجارية وجمعيات تعاونية تكون مهيأة لاشتراك المواطن بأي مبلغ يريده. أما إذا أراد أي مواطن أن يفتح محلاًّ يعمل فيه بنفسه أو مع أولاده ولكنه يريد أن يستعين بمواطنين فيُعطى له هذا الحق داخل أحد المجمعات التجارية التي تناسب بضاعته، دون أن يُسمح له باستقدام عمالة أجنبية. وعادة ما تلتزم المجمعات التجارية والخدمية بدوام ثابت وساعات عمل معقولة ومكافآت مجزية نسبياًّ، مما يُشجع الشباب السعودي الذي يبحث عن عمل على الالتحاق بها.. ومن الممكن أن يُصنَّف إغلاق تلك المحال العشوائية كنوع من الترشيد الاقتصادي الذي نحن في أمس الحاجة إلى البدء في ممارسته من أجل مستقبل أفضل.
في العالم المُتقدم علمياًّ لا تشاهد مثل هذه الفوضى في شوارع مدنهم على الرغم من وجود حريات شخصية كبيرة مكفولة لكل فرد في المجتمع، لأنهم يطبقون أنظمة صارمة هدفها مصلحة الجميع، ونادراً ما يكون هناك تجاوز للأنظمة. أما نحن، أتباع الدين الإسلامي العظيم الذي يأمرنا بتبني الأمانة والإخلاص في العمل وحب النظام، فشعوبنا مع الأسف بعيدة جدا عن تلك المثالية، وربما أن البعض يفخر بأنه يستطيع التحايل على القوانين ولا يقيم وزناً لحقوق الآخرين وشعورهم، وإلا لما وجدنا من يتستر على العمالة الوافدة ويحضرهم إلى هذه البلاد دون حاجة ُملحَّة، وهمه ـ هداه الله ـ الكسب المادي غير المشروع من ورائهم على حساب المصلحة العامة. ويا ليت الجميع يعلمون أن أمامنا تحديات جسيمة تُحتم علينا التخطيط السليم والمُتقن لمستقبل حياتنا وحياة أجيالنا، فلا يصح أن نغتر بما لدينا اليوم من دخل وفير ونحن قطعاً لم نحصل عليه بعرق جبيننا ولا بعمل سواعدنا ولا من نتاج أفكارنا، بل يأتي إلينا من مصدر قابل للنضوب دون أي تكلف. وعلينا أن نحترم ذلك المصدر ولا نكون سبباً في هدر هذه النعمة الإلهية ونحافظ عليها حتى تدوم ـ إن شاء الله ـ أطول وقت ممكن. وإطاعة الأنظمة وعدم الإسراف في جلب منْ لسنا في حاجة إلى خدماتهم هو نوع من ممارسة المواطنة الصالحة المطلوبة من كل واحد منا.
وربما أنه يوجد من بيننا منْ ينظر إلى استقدام العمالة الأجنبية، وعلى وجه الخصوص المسلمين منهم، كضريبة على دخلنا الكبير ومساعدة لهم، وهي نظرة إنسانية لا بأس بها، وحتى أن هناك منْ يدعو إلى مساواة راتب أي وافد مسلم بما يتقاضاه المواطن بصرف النظر عن مستوى المعيشة في بلاده التي قدم منها. وفي ذلك إغفال لحال وضعنا الاقتصادي الذي يعتمد كلية على مصدر قابل للنضوب. صحيح أن لدينا اليوم دخلا كبيرا، ولكن يجب علينا ألا نسمح لهذا الدخل بأن يُستغل لتوسيع الاستقدام، بل يُوجَّه إلى بناء المواطن الصالح المنتج عن طريق التدريب والابتعاد عن حياة الرفاهية القاتلة.