رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الصين تستهلك أكثر

تطرح نظرية الانفصال Decoupling Theory فكرة مفادها أن النمو في الاقتصادات الناشئة انفصل أخيرا عن النمو في الاقتصادات المتقدمة، مما يعني أن حدوث اضطراب في الأسواق المالية في الدول المتقدمة يمكن تفاديه بالتحول إلى أسواق الاقتصادات الناشئة. ويبرر أصحاب هذه النظرية ومناصروها ذلك بأن النمو القوي في كل من الصين والهند خلال السنوات الأخيرة، وفر لهم ميزة الانفصال عن النمو في الاقتصادات المتقدمة وبالتالي اختلاف اتجاهات الأسواق في كل منهما. لكن هذه النظرية تعرضت لاختبار قوي جداً إبان الأزمة المالية الحالية التي أثبتت فشل هذه النظرية، وأنه إذا عطس الاقتصاد الأمريكي فإن الإنفلونزا بالتأكيد ستنتقل إلى الاقتصادات الأخرى.
السبب في ذلك الاعتماد الكبير للاقتصادات الناشئة وفي مقدمتها الصين على الطلب الاستهلاكي في الاقتصاد الأمريكي الذي يمثل سوقاً قيمتها تتجاوز ثمانية تريليونات دولار أمريكي في السنة أو ما يعادل ما نسبته 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. هذا الاعتماد الكبير يجعل أي شيء يصيب الاقتصاد الأمريكي ويؤثر في الطلب الاستهلاكي يؤثر بالتأكيد في الاقتصادات المعتمدة على التصدير كالاقتصاد الصيني. وهذا يؤكد أن الصين لا يمكن أن تلعب اللعبة وحدها ولا يمكنها أن تكون دائماً المستفيد الأكبر من النهم الاستهلاكي الأمريكي الذي أصبح اليوم المصيدة التي وقع فيها أكثر الاقتصادات العالمية نمواً خلال العقدين الأخيرين. فقد كانت اللعبة تسير على ما يرام خلال العقدين الأخيرين ووفق ما يشتهيه الساسة في الاقتصاد الصيني، وهي لعبة بسيطة جداً مفادها المحافظة على رخص السلع الصينية بالتحكم في سعر صرف اليوان وبالتالي زيادة تنافسية السلع الصينية في الأسواق الغربية خصوصاً الأمريكية في مقابل فوائض كبيرة يجنيها الاقتصاد الصيني. ثم إعادة توظيف هذه الفوائد داخل الاقتصاد الأمريكي مرة أخرى لإشباع النهم الأمريكي للاستهلاك عن طريق توفير قنوات متعددة من الإقراض سواءً عن طريق بطاقات الائتمان أو القروض الشخصية أو غيرها من القروض التي أسهمت في تعزيز ذلك الاستهلاك، والمستفيد بالطبع الاقتصاد الصيني الذي استمر في النمو بمعدلات غير مسبوقة.
وهذا أسهم بشكل كبير في زيادة عجز الميزان التجاري الأمريكي مع الصين مما جعل الساسة الأمريكيين يرفعون أصواتهم بأن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر إلى الأبد وأن على الصينيين أن يتركوا السوق لتعكس القيمة الحقيقية لعملتهم، لأن ذلك سيؤدي إلى زيادة قيمة السلع الصينية وسيخفف من تنافسيتها المصطنعة في الأسواق الأمريكية، لكن الصينيين قاوموا هذا الأمر بشراسة، مما دعا الأمريكيين إلى ترك الدولار يتهاوى بشكل كبير لتعديل الميزان التجاري الأمريكي، مما أسهم في تفاقم معدلات التضخم في الدول المرتبطة مع الدولار كدول الخليج، لكن مع ذلك لم يتعلم الصينيون الدرس واستمروا في التحكم بسعر صرف اليوان الصيني للمحافظة على المكتسبات التي حققوها ظناً منهم أنهم يستطيعون أن يديروا اللعبة وحدهم، لكن الأمور سارت على غير ما يشتهون.
جاءت الأزمة المالية وأثبتت نظرية الانفصال (أو الانفكاك) بين اقتصاديات الدول المتقدمة والدول الناشئة فشلها، وبدأ الصينيون يعانون نقصاً في الطلب على سلعهم وبدأت مصانع بأكملها بإقفال أبوابها وتسريح العمالة فيها، وبدأ أهل الريف الذين قدموا للعمل في تلك المصانع بالعودة إلى قراهم بحثاً عن مصدر الرزق عندما أغلقت المدن الكبيرة أبوابها في وجههم، والنتيجة تغير في مفهوم الإدارة الاقتصادية الصينية وقناعة بأهمية العمل مع الغرب لكي يتفادوا أثر الأزمة فيهم. وهنا أعلنت الصين حزمة تحفيز مالي كبيرة جداً قيمتها تجاوزت 600 مليار دولار وأتت تجاوباً مع تدابير حزم التحفيز المالي في الدول الغربية، وصرفت هذه الحزمة على تعزيز البنى التحتية والصحة التعليم وأنظمة التقاعد وتمويل شراء السلع المعمرة، وهي بذلك تعود للاستجابة لمطالبات الأمريكيين السابقة بضرورة تعزيز الاستهلاك المحلي بدلاً من الاعتماد على الاستهلاك الأمريكي فقط.
الصين تعد من أقل دول العالم بنسبة مساهمة الاستهلاك المحلي الخاص من الناتج المحلي الإجمالي حيث لا تتجاوز هذه النسبة 37 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، في تبلغ هذه النسبة في الولايات المتحدة وتشيلي 71 في المائة ، وتتجاوزهما في ذلك المكسيك التي يسهم فيه الاستهلاك المحلي بما نسبته 75 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. الآن الصين تسير في مسار مختلف لتعزيز الاستهلاك المحلي وهو ما سيعزز من نظرية الانفصال Decoupling Theory في المستقبل إذ يتوقع، في حالة تبني المسؤولين الصينيين منهجاً حازماً لتعزيز الاستهلاك المحلي، أن ترتفع مساهمة الاستهلاك المحلي الخاص إلى ما نسبته 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الصيني بحلول عام 2025م.
المشكلة التي ستواجه الصين هي كيفية تشجيع الاستهلاك المحلي للمواطن الصيني الذي يتمتع بأعلى معدلات الادخار في العالم، حيث يدخر ما يقارب 25 في المائة من دخله في المتوسط والذي يتجاوز معدل الادخار للمواطن الأمريكي بست مرات وثلاث مرات ضعف معدل الادخار للمستهلك الياباني. لذلك، فإن تحديد الوسيلة المثلى لتشجيع الاستهلاك المحلي يتطلب معرفة سبب ارتفاع معدل الادخار في الصين. أحد التفسيرات المقنعة لذلك هو الخوف من المستقبل لدى الصينيين بالنظر إلى ضعف الضمانات الصحية لهم وضعف ما تقدمه أجهزة الضمان الاجتماعي ومؤسسات التقاعد. وبذلك فإن مفتاح الحل لتعزيز الاستهلاك المحلي الصيني والانفكاك عن الاقتصادات المتقدمة يتطلب تعزيز أنظمة التقاعد والضمان الاجتماعي والصحي للمواطن الصيني وهو ما تركز عليه حزمة التحفيز المالي الأخيرة. لكن لنتذكر أن هناك فرصاً كثيرة يمكن أن يجنيها اقتصادنا بالاستفادة من هذا التوجه الصيني إضافة إلى آثار سلبية على المدى البعيد، وهو ما يتطلب دراسة جادة ووافية لتعزيز الجوانب الإيجابية وتجنب الآثار السلبية لهذا التوجه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي