مستقبل مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في بلادنا
في عالم القرية الصغيرة لم يعد من السهل بناء صورة واضحة ومتكاملة الأجزاء لأي قضية أو مشكلة كانت لتداخل المشهد المحلي بالمشهد العالمي وتفاعلهما الحقيقي والنفسي من ناحية ولتعقد مكونات المشهدين من ناحية أخرى بشكل غير مسبوق، ولاشك أن وضوح الصورة المكتملة ترفع من جودة الخطط والقرارات والعكس صحيح ذلك أن الحكم على الشيء فرع من تصوره والتشخيص السليم نصف العلاج.
منهجية التصدي للقضايا ومعالجة المشكلات لم تعد بالسهولة كما كانت في السابق بل أصبحت عملية معقدة وتمر بخطوات عديدة وتستغرق وقتا وتستنفد جهدا ومالا للوصول إلى القرارات الرشيدة والأفكار العلاجية الناجعة التي توفر الوقت والجهد والمال وهو الحال المطبق في الدول المتقدمة، حيث يبذل الوقت والمال والجهد قبل أي قرار أو أي خطوة علاجية في عالم لا يتيح الفرصة للنجاح لمن هم يعملون بمبدأ التجربة والخطأ الذي ما زالت دوائر صناعة القرار في كثير من قطاعاتنا الحكومية والخاصة وغير الربحية تعتمده في إعداد خططها واتخاذ قراراتها وتسيير أعمالها رغم مخاطره العالية وإضاعته للوقت والجهد والمال أضعاف أضعاف تكلفة صناعة القرار الرشيد.
في الدول المتقدمة تنتشر مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الخاصة التي تستقطب الخبرات الممارسة لتكون خزانات التفكير الاستراتيجي في تلك المراكز رغم تكلفتها العالية ذلك أن الطلب على خدماتها كبير ويدفع لها العملاء المال الكثير لقناعتهم بأن تكاليف جودة القرار لا تقارن مع تكاليف عدم جودته من مال وجهد ووقت وأضرار قد تحتاج إلى تكاليف كبيرة جدا لمعالجتها هي الأخرى، وفي بلادنا لا تكاد تسمع عن مركز واحد لندرة من يدفع على هذه الخدمة وإن دفع فهو يدفع النزر القليل والأجهزة الحكومية وهي المنفق الأكبر في جميع المجالات تصنع قراراتها في دائرة كبار الموظفين في أبواب مغلقة إلا فيما ندر.
القطاع الخاص لن يبادر بالاستثمار في مثل هذه المراكز لعدم جدواها الاقتصادية والمقرونة بندرة خزانات التفكير الممارسة أو تلك التي تجمع بين الأكاديمية والممارسة وهو ما يستدعي البحث عن البديل المحفز لهذه الصناعة المهمة والحيوية في عصر القرية الصغيرة المتداخل والمتشابك والمعقد ومتعدد المتغيرات التي لا تثبت على حال في عالم متسارع التغيرات، نعم علينا أن نجد البديل فلا خيار أمامنا ولا يمكن لنا أن نتقدم وننهض دون هذه المراكز الوطنية التي أصبحت جزءا من المنظومات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية في الدول المنافسة والمتقدمة منها على وجه الخصوص.
قرأت أكثر من اتفاقية عقدت بين أجهزة حكومية ومراكز البحوث في جامعاتنا لإعداد الخطط الاستراتيجية لتلك الأجهزة ورغم ما سمعته من قصص غير مفرحة عما آلت إليه بعض هذه الاتفاقيات إلا أني رأيت ما يفرح في هذه الاتفاقيات لسببين: الأول، أني رأيت قناعة من القائمين على تلك الأجهزة الحكومية بضرورة الاستعانة بالمراكز الاستشارية لإعداد خططها للخروج من أي اعتبارات غير منطقية خصوصا العاطفية منها نتيجة المشاعر الإنسانية للعاملين في هذه الأجهزة، والثاني أني رأيت بداية تشكل وتطور بنية تحتية لمراكز الأبحاث والدراسات في بلادنا يمكن لها أن تعزز الطلب على هذه الخدمات إذا حقق عملاؤها نجاحات نتيجة الاستفادة منها ما يحفز القطاع الخاص للاستثمار المؤسسي في هذا المجال الذي ما زال في أول الطريق ويطرح فرصا استثمارية واعدة لما يريد أن يستثمر عقله والعقول الاستشارية المتاحة في تحقيق إيرادات مجزية.القفزة الكبيرة التي تشهدها بلادنا في عدد الجامعات الحكومية والتي وصلت لـ 21 جامعة إضافة للجامعات الأهلية التي وصلت لسبع جامعات والمدن الجامعية السبع المزمع إنشاؤها في المستقبل القريب فضلا عن معهد الإدارة تقول كلها بأننا أمام فرصة لإيجاد نحو 36 مركز بحوث ودراسات استراتيجية كبنية تحتية قوية لهذا النوع من الخدمات المهمة والحيوية بل والضرورية في المرحلة الحالية والمستقبلية، وأعتقد أن على وزارة التعليم العالي وهي التي حققت إنجازات كبيرة في تطوير طاقتها الاستيعابية ورفع مستوى جودة التعليم وتطوير قدراتها البحثية أن تبذل جهودا استثنائية في تطوير هذه المراكز لتصبح مراكز بحوث ودراسات استراتيجية متقدمة تدعم الإدارات العليا في جميع مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص والقطاع غير الربحي في إعداد الخطط وتنفيذها ومتابعتها وتقويمها إضافة لدعم صناع القرار ومتخذيه لاتخاذ قرارات رشيدة تستند إلى تشخيص صحيح ودقيق وفق منهجية علمية حديثة. وأعتقد أن من الجهود التي يجب أن تبذلها وزارة التعليم العالي وجامعاتها في تطوير هذه المراكز لتصبح في مصاف مثيلاتها في الدول المتقدمة العمل على استقطاب مستشارين ممارسين من خارج الجامعة للخروج من إشكالية الاعتماد على الأكاديميين الذين درسوا أكثر مما مارسوا على أرض الواقع وكلنا يعرف الفرق بين الدراسة والتدريس والممارسة على أرض الواقع، كلي ثقة بالقائمين على وزارة التعليم العالي والجامعات أن ينهضوا بهذا الدور على أكمل وجه باستقطاب الكفاءات الأكاديمية والمهنية سواء بسواء لتكون لدينا مراكز بحوث ودراسات استراتيجية قادرة على تلبية الطلب على هذا النوع من الخدمات المتقدمة.