«فينس كوك» ونموذج الشفافية اللازمة
من المحرج جداً أن تصدر بعض الهيئات البنكية قرارات شرعية لمنتجات معينة, ويكون التنفيذ على هذه المنتجات بآلية محرمة شرعا, سواء عبر ما يعرف بالبيع على المكشوف, أو عبر مرابحات صورية للسلع، دون علم المؤسسات المالية الإسلامية بهذه الخروقات, ربما سوى بعض الاجتهادات الفردية لبعض الفقهاء المهتمين بمراقبة السوق, وقد يعدون على أصبع اليد الواحدة. والمدهش أن يصرح رجل غربي, اسمه ''فينس كوك'' لا ينتمي لديننا, ولا للغتنا, ومع هذا ينطق بكل جرأة ضد بورصة لندن للمعادن, معلناً تحفظه على بعض المعاملات التي ينبغي أن تكون مطابقة للضوابط الشرعية, حسب الهيئة الشرعية لمصرفه الذي يتولى إدارته التنفيذية, حيث انتقد البيع على المكشوف, وعدم وجود تحرك فعلي للسلع المركونة في المخازن, كما جاء خبر تصريحه في تقرير نشر قبل أيام في جريدة ''الاقتصادية''.
والمشكلة هنا- حسب التقرير- أن المتحدث باسم البورصة البريطانية رد على هذه التصريحات بأن ''الأوراق القانونية'' هي عبارة عن مستندات تبين ملكية أو حيازة المعدن, وهذه الأوراق القانونية الصادرة من البورصة تضمن وجود مستودع لشركة ما, والشركة صاحبة المستودع تتعهد بتخزين المعدن نيابة عن الشخص الذي يحملها. وتستخدم هذه الورقة في التداولات التي تتم في البورصة، من أجل تسوية العقود بتاريخ التسوية المذكور في العقد, وأن بيع السمسار سلعاً لا يملكها إجراء قانوني في بريطانيا... إلخ. ولا عجب في تصريح المتحدث الرسمي للبورصة؛ لأن البورصة اللندنية ليست معنية بتطبيق قرارات الهيئات الشرعية, ولكن العجب لا ينقضي من عدم وجود رقابة شرعية في بعض البنوك الإسلامية؛ من أجل تحذير زبائنها من الممارسات غير الشرعية لمنتجاتها. الحديث هنا ليس عن حرمة البيع على المكشوف, وموقف الهيئات الشرعية واضح في تحريمه, ولكن الحديث عن التوسع في موضوع القبض الحكمي, وظهور آثاره السلبية على أرض الواقع, وما كشف عنه ''فينس كوك'' هو جزء مما يجب الكشف عنه, وهي جرأة تحسب له كمواطن بريطاني وقف موقفا شفافا وواضحا وجريئا ضد بورصة بلاده.
والمهم أننا نحتاج إلى إعادة النظر في توسيع مفهوم القبض الحكمي, والذي أدى بدوره إلى المساهمة في الحد من دوران عجلة الاقتصاد الحقيقي في السوق؛ وذلك أن توسيع مفهوم القبض الحكمي يؤدي إلى ملء المستودعات بسلع تأكلها الأرضة أو الصدأ, أو بسلع تباع وتشترى في اللحظة الواحدة عدة مرات, أو ربما بسلع لا يمكن أن ترى بالعين المجردة, ولا بباقي الحواس الخمس..!
ولو رجعنا إلى كلام أهل العلم لوجدنا أن قولهم بعدم اشتراط القبض الفعلي لبعض المبيعات, إما لعدم إمكان القبض الحقيقي كما في العقار, وإما لقيام التخلية بين المشتري وبين السلعة مقام القبض, ولهذا نجد أن الحنفية قالوا في قبض العقار مثلا, كما في فتاوى قاضي خان: ''ولو باع الدار, وسلم المفتاح, فقبض المفتاح ولم يذهب إلى الدار يكون قابضاً'' ونلاحظ هنا أن المفتاح قبض حكمي للعقار, والسؤال هنا: هل يمكن من حيث الواقع (في ذلك العصر) أن يسلم المفتاح لمشترين اثنين..؟ طبعا لا. أما في عصرنا الحاضر الذي يطبع فيه البنك المركزي الأمريكي الدولارات دون رصيد, فإنه يمكن أن تطبع فيه بعض البنوك عدة أوراق ثبوتية لسلعة واحدة.., وبالتالي فإن القبض الحكمي للأوراق الثبوتية غير صالح في ظل عدم الثقة بالورقة القانونية للسلعة, ولا سيما أن السلع تظل متراكمة, في مستودع لا يفتح إلا لإقناع رواده بوجود السلع داخله..!
طبعاً هذا لا يعني أن صكوك حجج الاستحكام لا تقوم مقام القبض.., كلا, بل هي اليوم أكثر ثقة من المفاتيح التي كانت بمثابة قبض للمباني في زمن مضى؛ وذلك لأن حجج الاستحكام يقوم لها من الثقة والتحوط الرسمي والمبالغة في الضبط ما يجعلها بمثابة القبض الفعلي للعقار, ولهذا حين تتهاون بعض الجهات الرسمية في إصدار حجج الاستحكام, أو حين تصدر حجج استحكام ثم تسارع في نقضها, فإنها بذلك تصيبها في مقتل, وتتسلل الشكوك في نفوس الناس من جراء ذلك, ولهذا لابد من إحاطتها بسياج كبير يمنع من اختراقها, أو التشكيك في صحتها.
إذن حديثنا هنا عن الأوراق التي تصدر من البنوك لسلع توجد في الداخل أو في الخارج, لا يعرف ما مصيرها, لا سيما في ظل اللهف وراء تحصيل المال, والتلاعب الموجود في الأسواق, وافتقاد مثل هذه الأوراق الحماية الرسمية.
ولنأخذ مثالاً آخر لمن قال بجواز القبض الحكمي لبعض السلع, فقد جاء في حاشية ابن عابدين: ''وحاصله أن التخلية قبض حكماً, ولو مع القدرة عليه بلا تكلفة, لكن ذلك يختلف بحسب حالة المبيع, ففي نحو حنطة في بيت مثلا, فدفع المفتاح إذا أمكنه الفتح بلا تكلفة قبض.., وفي نحو بقر مرعى فكونه بحيث يراه, ويشار إليه قبض, وفي نحو ثوب فكونه بحيث لو مد يده تصل إليه قبض..'' فنلاحظ هنا قوله ''بلا تكلفة'' يعني يتسلم المشتري المفتاح, ويخلى بينه وبين السلعة, وكثير من''ولا أقول كل'' السلع والمعادن التي تباع اليوم عبر البنوك يحال بين العميل المشتري وبين السلعة أو المعادن التي اشتراها, فهل قبض الورقة الثبوتية إذن قبض حكمي على هذا الرأي..؟
ونلاحظ في المثال الثاني في حاشية ابن عابدين, وهو شراء البقر أو أي حيوان كان (وربما تكون سلعة للبنوك مستقبلا..) اعتبر رؤيته والإشارة إليه بمثابة القبض, وهنا نرى - مع تحفظي على هذا الرأي الحنفي - أنه اعتبر رؤيته والإشارة إليه في حكم القبض, ولا ريب أن هذا أسلم من رؤية معادن هي في صورة أوراق مكتوبة بحبر أسود.
لقد كتبت في مقال سابق حول القبض, أنه جاءت نصوص كثيرة تمنع من بيع الطعام قبل قبضه, وقاس عليه كثير من أهل العلم ما سوى الطعام: من السلع, كبيع السيارات, والأجهزة الكهربائية, والأدوات المنزلية, فلا تباع حتى تقبض, وتنقل من مكانها, وذكرت أن قبض كل شيء بحسبه (ومنها قبض حجج الاستحكام كدليل على قبض العقار)، وبينت أنه قد جاء النهي عن البيع قبل القبض في حديث ابنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ''من ابْتَاعَ طَعَامًا فلا يَبِعْهُ حتى يَسْتَوْفِيَهُ'' أي: يقبضه, وفي لفظ قال ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: ''كنا في زَمَانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَبْتَاعُ (أي: نشتري) الطَّعَامَ, فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا من يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ من الْمَكَانِ الذي ابْتَعْنَاهُ فيه إلى مَكَانٍ سِوَاهُ قبل أَنْ نَبِيعَهُ'' رواه الشيخان.
وهنا يثور تساؤل: لماذا وقف الشارع هذا الموقف الصارم من بيع المبيع قبل قبضه؟ وأعتقد أن تأمل النص الشرعي واستحضار واقعنا المعاصر كافٍ في استلهام المقصد الشرعي من ذلك النهي, إذ إن كثيراً من مشكلات البيوع المعاصرة تنشأ من البيوع التي لا تتحرك فيها السلع, وإنما تتحرك فيها عقود بيوع وشراء صورية, من واقع أوراق, أو فروق أسعار, والسلع تظل راكدة مكانها لا تتزحزح, سواء كانت أسهماً, أو سيارات, أو معادن, أو مواد غذائية, فنتج عن ذلك عدة أمور, منها: أن البضائع تظل راكدة مكانها لا يستفيد منها أحد, ولكن بمنع المشتري من بيعها قبل قبضها, تتحرك السلع, وينشط السوق, وترى الأعين البضائع والسلع وهي تجوب السوق ذهابا وإياباً, فيطمئن أهل السوق بوجود السلع, ووفرتها, وتداولها, فتهدأ الأسعار, وتتحرك على سجيتها, ولهذا كان من أبرز أسباب ارتفاع الأسعار ما يسمى بالاحتكار, الذي تخبَّأ السلع لأجله؛ لغرض إشعار المستهلكين أن السلعة نادرة في السوق, فيدفع فيها أكثر من قيمتها الحقيقية. ومن آثار عدم قبض السلع: أن المنفعة تضيق دائرتها بين البائع والمشتري, وبحمل الشارع الحكيم جميع المشترين على قبض السلعة, ونقلها من مكانها قبل بيعها, تتسع دائرة المنفعة, ويصبح في إجراء العقود مصلحة عامة, فيستفيد جميع أهل السوق, حيث يستفيد الحمال الذي يحمل البضاعة من مكانها, وتستفيد سيارات النقل بتحصيل أجرة نقل البضائع من محلها إلى مخازن المشتري, ويستفيد أرباب المخازن والمستودعات بتأجيرها... إلخ, وهكذا في سلسلة طويلة, يمكن استحضارها بتأمل ما يؤول إليه الحال عند قبض السلع, وهذا يدل دلالة واضحة على حكمة ربنا الحكيم الخبير الذي شرع للناس ما ينفعهم, ونأى بهم عما يضرهم, أو يلحق الأذى بهم.
وأنوه هنا إلى أن الهيئات الشرعية تنوء بحمل عظيم, أسأل الله تعالى أن يوفقها ويسددها, وفي ظل الممارسات الخاطئة في الأسواق, ولا سيما في الأسواق الأجنبية ينبغي أن تكثف الرقابة الشرعية, وأن يعاد النظر في بعض الآراء الشرعية, ولا سيما فيما يتعلق بمفهوم القبض الحكمي, وأن يكون لدينا من الجرأة والوضوح والشفافية أعظم مما لدى ''فينس كوك''.