رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


كيف نهدر فرصة الأزمة؟

إن الأزمة المالية العالمية في طريقها الآن إلى القاع، ورغم ذلك فإن الإحباط السياسي آخذ في الازدياد، وذلك لأن النقطة الدنيا التي بلغها الانهيار تعرض علينا فرصة أخيرة لتشجيع قدر هائل من التغيير الجذري، ولكن هذه الفرصة قد تُـهدَر وتذهب سدى. في حديث أدلى به في العام الماضي رام أيمانويل كبير موظفي البيت الأبيض قائلا: إن الأزمة الجيدة أشبه بالفرصة التي لا ينبغي أن تُـهدَر أبداً. إن الكارثة تشكل فرصة للتفكير في سبل تحويل العالم جوهرياً إلى مكان أفضل - وكذلك منع حدوث الأزمات في المستقبل. والناس كثيراً ما يبذلون قصارى جهدهم في التفكير، ولكنهم في بعض الأحيان يكثرون من التفكير إلى الحد الذي قد يجعلهم يخرجون باستجابات متناقضة.
إن ما يجعل الأزمة عميقة حقاً هو على وجه التحديد التنوع العريض لسبل التشخيص المتفاوتة والعلاجات المختلفة. والعواطف السياسية التي تثيرها هذه التشابكات في التفسير كثيراً ما تجعل الأزمة تبدو وكأنها مستعصية على الحل. وكانت هذه التناقضات، وليس بعض الخلل الفني في عملية تشغيل الاقتصاد، هي التي جعلت من أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين حدثاً كئيباً ومدمراً.
إن الاستجابات لأي أزمة تندرج تحت فئتين. ويهدف النمط الأول من الاستجابات إلى إعادة التنظيم المؤسسي على النحو الذي يسمح بإزالة أسباب العجز والحوافز الضارة، الأمر الذي يجعل الاقتصاد قادراً على العمل بقدر أعظم من السلاسة والكفاءة. أما النمط الثاني فينطوي على نهج أكثر تطرفاً، حيث إنه لا يحاول تحسين الاقتصاد، بل يسعى إلى تحسين الطريقة التي يدير بها الناس حياتهم.
لا يوجد حل مؤسسي محض يتسم بالحيدة في التأثير في الدخول النسبية ـ ولا شك أن الدخل النسبي والثروة من أهم الأمور التي يدور حولها الحوار السياسي في الأغلب الأعم. إن عمليات الإنقاذ تقودنا لا محالة إلى مجادلات مريرة، وذلك لأنها تساعد بعض الناس وتمتنع عن مساعدة آخرين. فمن المؤكد أن إنقاذ منتجي السيارات يبدو أمراً طيباً في نظر العاملين والموردين في هذا المجال, ولكن التكاليف لا بد أن يتحملها الجميع، بما في ذلك الشركات التي لم تستفد من عمليات الإنقاذ - ربما لأنها تعمل بكفاءة أكبر - ونتيجة لهذا فإنها تجد نفسها في وضع غير مواتٍ على الصعيد التنافسي.
إن عمليات الإنقاذ هذه باختصار تبدو وكأنها تساعد شركات كبرى يديرها أشخاص غير أكفاء. وستشكو الشركات الصغيرة دائماً من أنها لا تمتلك الثقل التنظيمي الكافي لانتزاع الأموال العامة من الحكومات. أما عمليات إنقاذ البنوك التي تشتمل على استخدام مباشر للأموال العامة لإعادة تمويل رؤوس أموال المؤسسات الفاشلة فإنها أكثر تكلفة وأقل شعبية على الصعيد السياسي.
يزعم أنصار التحفيز النقدي في بعض الأحيان أنه التصرف الأمثل لأنه أكثر حياداً فيما يتصل بتأثيراته التوزيعية، ولأن الفوائد المترتبة عليه تنتشر على نطاق أوسع, غير أن الحوافز النقدية كثيراً ما تكون انتقائية في الواقع، مثلها في ذلك كمثل عمليات الإنقاذ.
والقياس الذي ساقه الخبير الاقتصادي النقدي العظيم ميلتون فريدمان يتلخص في أن البنك المركزي قادر في كل الأحوال على التعامل مع المشاكل الانكماشية من خلال التصرف وكأنه يسقط الأموال من طائرة مروحية. ولكن في عالم الواقع لن يكون الجميع تحت الطائرة المروحية حين تتم عملية الإسقاط. بل ومن المرجح أن يحوم الطيار فوق الأصدقاء والأقارب حين يسقط الأموال. وحتى لو لم يكن الطيار فاسداً تماماً فإن الجمهور على الأرض سوف يفترض دوماً أنه يعمل وفقاً لخطة حزبية مستترة.
وكانت هذه هي المشكلة على وجه التحديد مع التوفير العدواني للسيولة النقدية، والتيسيرات الكمية، وخفض أسعار فائدة البنوك المركزية في إطار المساعي المبذولة في التصدي للأزمة الحالية. وفي أزمة الائتمان الحالية، كما كانت الحال في وقت أزمة الكساد الأعظم، سارعت البنوك المركزية إلى الإقراض بأسعار فائدة تكاد تقترب من الصفر. وهذا يعني أن المودعين لا يحصلون على أي شيء تقريباً على ودائعهم. ولكن حين يحاول المستهلكون أو الشركات الاقتراض فإنهم يجدون الاقتراض مكلفاً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً. وتنتاب الشكوك المقرضين (المصرفيين)، الذين يشعرون بالقلق إزاء الجدارة الائتمانية، ويطالبون بعلاوة مجازفة أعلى. ونتيجة لهذا فإن الائتمان ما زال في انكماش في أغلب بلدان العالم.
وفي الممارسة العملية فإن البنوك فقط هي القادرة على الحصول على الاقتراض الرخيص، وهي بهذا تصبح قادرة على إعادة صياغة ميزانياتها عن طريق الاقتراض بتكاليف بخسة والإقراض بتكاليف أعلى. وهذا هو السبب الذي يجعل البنوك تبدو فجأة وكأنها مربحة على نحو غير متوقع على الإطلاق. ولكن التناقض بين ربحية البنوك والويلات التي يعانيها الجميع غيرها من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الضغوط السياسية على البنوك المركزية، التي تضطر إلى تفسير الأسباب التي تجعل ''أصدقاءها'' (البنوك) هم فقط الذين يقفون تحت المروحية حين تسقط المال.
إن الإحباط الناتج عن التعقيدات المصاحبة لمحاولة تقديم الحلول الجاهزة لا بد أن يؤدي إلى محاولات البحث عن حلول أكثر تطرفاً. فيسعى البعض إلى التعامل مع الميول البشرية الأساسية، وتعديل سلوكيات الناس. في وقت الأزمات تنشأ مثل هذه الأفكار المثالية بشأن الطرق الكفيلة بضمان ازدهار السعادة البشرية، استناداً إلى أسس علمية مزعومة في كثير من الأحيان.
على سبيل المثال، وقبل فترة طويلة من الانهيار المالي، انضم خبراء الاقتصاد التجريبيون إلى علماء النفس في محاولة قياس الميول المتفاوتة إلى الجشع. وتشير بعض الدلائل إلى وجود ارتباط بين مستوى الدوبامين (ناقل عصبي)، والإدمان، والسلوك الجشع.
وحيث إن أحد التشخيصات الشائعة للمشكلات المتولدة في عالم الخدمات المالية يؤكد أن الجشع البشري هو المسؤول عن هذه المشاكل، فقد اقترح مركز بحثي ألماني أخيرا أن الأشخاص الذين يتسمون بميل وراثي إلى إفراز مستويات عالية من الدوبامين لا بد أن يمنعوا من تولي مناصب قيادية في المؤسسات المالية.
بيد أن مثل هذه الاستراتيجيات الجذابة ظاهرياً تهدف إلى جعل الأخيار بين الناس يبدون وكأنهم الاستثناء - واستناداً إلى مثل هذا الاختبار التعسفي. وفي حالة تنفيذ الاقتراح الألماني فمن المرجح أن يعمل ذلك على استبعاد السلوك الذي يشتمل على قدر مقبول من المجازفة، إلى جانب تهميش هؤلاء الذين يتخذون قرارات جامحة وغير ملائمة.
إن كلاً من ردود الفعل المؤسسية والسلوكية في التعامل مع الأزمات تتسم أساساً بإثارة المشاكل والجدال. والبحث عن الحلول الفنية يؤدي إلى الاستقطاب السياسي، وقد يقود في النهاية إلى طريق مسدود. أما البحث عن جذور بشرية عميقة للأزمات فهو على النقيض من ذلك يؤدي إلى محاولات تغيير الطبيعة البشرية، وهي محاولات عبثية - وأشد خطورة في جوهرها.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي