أندلس الأمس وإسبانيا اليوم..!
منذ زمن والأنظار تتطلع إلى هناك.. حيث قلعة من قلاع الإسلام البارزة، وحضارة من حضارات المسلمين الشامخة، إلى أندلس موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبد الرحمن الداخل، إلى الأندلس التي دخلها طارق بسبعة آلاف رجل، ثم انضم إليه خمسة آلاف، ليهزم بـ 12 ألف مقاتل جيشا قوامه 100 ألف فارس.. حتى وصل بجيش المسلمين تخوم فرنسا..!
لقد افتتح طارق الأندلس، فكانت منارة علم وتعليم وحضارة عمرانية راقية، يؤمها الناس من كل صوب، ليطلبوا العلم على عمالقة العلم من أمثال ابن عبد البر وابن رشد والبلوطي، وينهلوا العلم من معدنه العذب ومعينه الصافي، ولأن الشوق قد بلغ مداه للوصول إلى تلك الآثار الإسلامية الخالدة، لذا أخذت عصا الترحال، واتجهت إليها بإرادة المشتاق والعاشق لأدخل الأندلس، ليس دخول الفاتحين، ولكن دخول المعتبرين؛ لأستعيد الذاكرة، وأقف على الأطلال، وأتذكر الأمجاد، وأستحضر أيام الماضي، فهالتني حضارة المسلمين السامقة، وأدهشتني معالمها بكل ما تعنيه مفردات اللغة..!
أدهشتني غرناطة بقصورها وزخارفها وهندستها المعمارية..!
أدهشتني الحمراء والزهراء بجمالها وقلاعها وحصونها المنيعة..!
أدهشتني قرطبة بجامعها الكبير، وإشبيليا بجامعها الشاهق، اللذين تحولا بأيدي المحتل إلى كنائس؛ بفعل التصاوير والتماثيل والصلبان والنواقيس وطقوس الرهبان..! ولكن بقيت المحاريب شاهدة على أنها بيت من بيوت الله، وبقيت الزخارف والعبارات الإسلامية في أرجاء جامع قرطبة وفي أبواب جامع إشبيليا شاهد عدل بأنه من تركة الحضارة الإسلامية الضاربة في أعماق الماضي تحت عنوان الكلمات المنحوتة في الحجر وفي جدران الجامع وأبوابه بـ (لا غالب إلا الله .. القدرة لله.. الملك لله.. العزة لله..الحمد لله على نعمة الإسلام).
لقد ضاعت الأندلس منا حين انشغل المسلمون في الأمور التافهة، وتعلقوا بالدنيا على حساب الدفاع عن الدين وأهله، وزادت الحسرة حين دخل المحتلون الأندلس، فشوهوا التاريخ بإزاحة كثير من المعالم الإسلامية، وبنحتهم الصور، وغرسهم التماثيل في أرجاء جامع قرطبة وإشبيليا..! وكأن هذه الأيدي الطارئة قد شاركت في بناء تلك الحضارة العمرانية العريقة، فدهشت من محاولة التزييف والتشويه، كما دهشت من معالم الحضارة الإسلامية ذاتها..!
ولم تكن حضارة الإسلام في الأندلس حضارة عمرانية فقط ، بل كانت الحضارة العلمية أكثر بزوغا وإشعاعا، فقد شيدت الجوامع لتكون منارة علم للدارسين، لا بل كان العلم حاضرا في حياة الناس ومعاشهم، ففي الأسواق (مثلا) كان أحمد بن هلال العطار مفتيا في السوق بقرطبة، وكان محمد بن فضيل الحداد يتجر في سوق الحديد، ويفتي أهل السوق بقرطبة، وهنا نلحظ تفويض أهل الاختصاص في الفتيا، فلا يفتي إلا المتخصص العارف بأوضاع السوق، فقد كان ابن الفضيل ممارسا للتجارة، وكان فقيها، ولذا تأهل للفتيا في قضايا السوق، بل كان في الأندلس آنذاك ما يسمى بصاحب السوق، وقد كان يقوم بمراقبة ما يقع في السوق من غش أو احتكار أو تحالف لرفع الأسعار، فيعالجه بقوة السلطة؛ لوضع حد للتلاعب بالمنتجات المعروضة أو الأسعار...
وإذا كان من أعظم ما يرى السائح في البلاد الأوروبية احترام النظام، وتطبيق العدالة على الجميع، فقد كانت بلاد الأندلس المسلمة منذ نهاية القرن الأول الهجري بلاد النظام ومنارة للعدل، فقد كان جهاز الحسبة في الأندلس يقوم بأدوار متعددة، منها المحافظة على احترام قانون الشريعة الإسلامية، والاهتمام بنظافة الطرق والأماكن العامة، ومراقبة المأكولات والمشروبات، وتنظيم مواطن الاستحمام، والانتباه لأسباب العدوى، وتنظيم مهنة الطب، ونحو ذلك. لا، بل جاء في كتاب قضاة قرطبة للخشني ما يدل على حماية القاضي لما يضر بالبيئة من التلوث، حيث قضى قاضي قرطبة سليمان بن أسود على رجل تضرر جيرانه من انبعاث الدخان من فرنه ، فحكم عليه بوضع أنبوب الفرن من أعلى ؛ كيلا يخرج منه الدخان باتجاه الجيران فيضر بالمصلحة العامة..!
ومما يدل على العدالة التي ينعم بها القضاء في الأندلس (قبل مجيء محاكم التفتيش في إسبانيا بمئات السنين) أن قاضي قرطبة رفع إليه أحد اليهود مظلمة يشكو فيها غلمان الأمير محمد بن عبد الرحمن (الذي كان آنذاك أميرا على مدينة ماردة في الأندلس) يشكوهم بأنهم اختلسوا منه للأمير جارية من جواريه، فما كان من القاضي إلا أن أوصل مظلمته إلى الأمير محمد، وسأله إعادة الجارية إلى صاحبها اليهودي، وعندما أنكرها الأمير هدده القاضي بالركوب إلى قرطبة وإخبار أبيه (الخليفة) بالقضية، فلما تأكد الأمير من صدق نيته رد الجارية على اليهودي، وهنا تتجلى أعظم صور العدالة، وذلك حين يحكم القاضي المسلم لصالح اليهودي ضد غلمان الأمير..!
وحين حلت أزمة اقتصادية بالأندلس، وغلت الأسعار هب الجميع للتخفيف من حدة الغلاء وتبرع الناس بما لديهم من فضل طعام ونحوه، ونادى منادي القاضي ..أيها الناس.. يقول لكم القاضي إنه ليس بغائب عنكم ما فيه ضعفاؤكم ومساكينكم من الفاقة والحاجة، فحصلوا زكاة أموالكم، وكفارة أيمانكم، ووصايا أمواتكم، وعجلوا بها على فقرائكم ومحاويجكم، ولا تنسوهم، فهم غدا خصماؤكم عند الله ربكم، وهو شهيد عليكم...، وقد نودي بكتب القاضي هذا سنة 363 بأبواب جامع قرطبة، ثم أجرى القاضي هذا الكتاب في خطبة الجمعة، فكان لموقف القاضي(المنشور في وسائل الإعلام المتاحة في ذلك الوقت) أثر كبير في فشو الصدقات والتعاون على تجاوز تلك الأزمة الاقتصادية الخانقة.
وقد حدثني أحد الإخوة في إسبانيا ببروز ظاهرة وقوف بعض الإسبان بجوار مواقف السيارات؛ ليستدعي سائق السيارة نحو الموقف الذي يراه السائق بعينيه المتحملقتين ليحصل منه على مبلغ يورو واحد أو 2 يورو ..! فهل تنجح إسبانيا (كما نجح القاضي الأندلسي) في حفز الناس لنشر روح التعاون والتكافل بين الناس في ظل الأزمة العالمية؟
بالمقاييس المادية التي رأيتها هناك أعتقد أنها ستفشل..، وهي الآن على مسافة أكثر من ألف عام من حادثة الأزمة الأندلسية..!