الخدمات الصحية.. معاناة الإجراءات فوق معاناة المرض
الصحة والتعليم يمثلان حجر الزاوية في أي تنمية وتطور, فالصحة تعنى بجسد الإنسان، وعضلاته، وكفاءة أجهزته البدنية، بينما التعليم يعنى بالعقل والأخلاق، وتهذيب السلوك، ولذا فالمجتمعات تفتخر بما تقدمه في هذين المجالين من خدمات، وما تحققه من إنجازات. وفي المجال الصحي حققت الكثير من المجتمعات إنجازات هائلة، وأوجدت أنظمة تكفل تقديم الخدمة إلى محتاجيها بكل يسر وسهولة، ودونما حاجة للانتظار طويلاً في الطوابير، انتظاراً لطبيب، أو سعياً لمقابلة مسؤول بهدف الحصول على شفاعته، أو أمره للعلاج في هذا المستشفى، أو ذاك.
وقد حقق القطاع الصحي في بلادنا إنجازات تذكر، خاصة في فصل التوائم، وزراعة الأعضاء كالكبد، والكلى، وطالت الخدمات الصحية أناساً داخل البلاد وخارجها، وكم شعرنا بالغبطة لهذه الإنجازات لما لها من بعد إنساني، وواجب تجاه المواطنين، ولما قد يكون لها من فوائد اقتصادية مستقبلاً حين تتشكل لدينا منظومة صحية متكاملة، وقادرة على تلبية الاحتياجات الصحية لطالبيها داخلياً، أو من الخارج، فالنجاح الذي نحققه يؤسس لحقبة نكون رواداً في هذا المجال، وحينه يمكننا تقديم الخدمة الصحية في مرافقنا، وعلى أيدي أطبائنا، وبذلك نوفر أموالاً طائلة يضطر الكثير من المواطنين للسفر إلى الخارج بحثاً عن العلاج حتى أن مصطلح السياحة العلاجية أصبح مشاعاً، ويرد في وسائل الإعلام، ويتم تداوله بين الناس.
تأملت في الوضع الصحي من خلال قراءتي للصحف، وسماعي للناس في مجالسهم، ومن ملاحظتي حين أراجع المستشفى فلفت انتباهي الزحام الشديد، وكثرة المراجعين مما يعني الطلب الكبير على هذه الخدمة، أو نقصاً في هذه الخدمة موجوداً سواء كان في عدد الأطباء، أو في الأسِّرة، أو أن خللاً تنظيمياً ما يوجد في المرافق الصحية. من أهم الملاحظات التي تتكرر على ألسنة الناس ولاحظتها بنفسي هو طول المواعيد حيث ينتظر بعض المرضى لا أياماً، وأسابيع بل أشهراً، وهذا قد لا يكون به بأس إن لم يترتب عليه مضاعفات على المريض لكن في حالات كثيرة نسمع عن حالات توفيت، أو صار لها مضاعفات شديدة لأنها لم تتمكن من الحصول على الخدمة الصحية المناسبة في الوقت المناسب.
ذكر لي أحد الزملاء الذين درسوا في بريطانيا أن ابنه جرح أصبعه في ليلة من ليالي الشتاء القارس فاتصل بالمستشفى يسألهم عن طريقة مناسبة لإيقاف الدم رغم أنه لم ينزل إلا قطرات لكنه لم يمض إلا دقائق، والطبيب السيار يقرع الجرس، وقد أجرى له إسعافات أولية (الطبيب السيار طبيب يتجول في سيارته حتى يكون قريباً ممن يحتاج إلى الخدمة الطبية سواء في البيوت أو في الشوارع نتيجة الحوادث). وخرج من عنده لكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى اتصل به المستشفى، وأبلغه أن الإسعاف متجه إليه، وقد حاول جاهداً إقناعهم بأنه لا حاجة لذلك لأن الأمر لا يستدعي فرفضوا، وأخذوا الابن إلى المستشفى للاطمئنان عليه. أما خدمات الولادة فيذكر لي الزميل أن الممرضة تتردد على زوجته في المنزل بعد الولادة مدة أربعة عشر يوماً ثم يأتي الطبيب، أو الطبيبة للفحص الكامل للوالدة والمولود.
تأملت هذه الصور من الخدمات الطبية في المملكة المتحدة، وقارنتها بما هو لدينا فألفيت البون شاسعاً، ولا يمكن المقارنة بأي صورة من الصور. أعرف حالة تحتاج إلى زراعة كبد، وقد حدث لهذه الحالة نزيف عدة مرات، وقد أخبره الأطباء بضرورة الإسراع في زراعة الكبد لكن لعدم توافر سرير اضطر للانتظار حتى تفرج، ويتوافر له سرير، ولو وضع الفرد منا نفسه في مثل هذه الحالة كيف سيكون الوضع النفسي للمريض، وكذلك وضع أسرته، وكل من حوله، وهو عاجز عن علاج نفسه في الخارج وفي الوقت ذاته المستشفى لا يوجد سرير شاغر.
أما الإخلاء الطبي، والإجراءات المتبعة للحصول عليه فهذه قصة أخرى، في كثير من الحالات يموت المريض، وتسوء حالته، وتتدهور قبل مجيء الإخلاء الطبي، وهذا يعود إلى كثرة الإجراءات، والبيروقراطية فالمستشفى يكتب التقرير، ويرسل للمحافظ والمحافظ يرسل لأمير المنطقة، وأمير المنطقة يرسل إلى من هو أعلى، وعلينا أن نتصور كم هي المعاناة التي يمر بها المريض، وأهله فلا يكفي معاناة المرض، ووطأته إلا مكابدة، ومتابعة معاملة هنا، أو هناك، والوقت يمضي بثقله على المريض وأهله، ولذا أقترح التخلي عن المركزية، وربط الموضوع مباشرة بين المستشفى ممثلاً في الطبيب، والمشرف على خدمة الإخلاء الطبي بدلاً من محطات البيروقراطية المنهكة للمريض، وأهله، وكذلك لجميع الأطراف، فما الداعي من شغل المسؤول الكبير في الوطن، والذي لديه من المسؤوليات الشيء الكثير في إجراءات روتينية تحدث في كل يوم، أو ربما في كل ساعة.
إن الخدمة الصحية أمر لا يمكن الاستغناء عنه، ولا يمكن أن يكون فاعلاً ما لم نوفر الإمكانات المادية، والبشرية اللازمة، ونوسع دائرة الخدمات خارج المدن الرئيسة، وذلك بدعم مستشفيات المحافظات بدلاً من التركيز على المدن الكبيرة، وهذا خلاف ما هو حادث الآن، حيث إن الناس يضطرون لمراجعة مستشفيات الرياض، أو جدة بينما مستشفيات المحافظات تفتقد كثيرا من الإمكانات التي تؤهلها لتقديم الخدمة بالشكل الصحيح، ومن يقرأ ما يكتب في الصحف، أو له علاقة بالمحافظات يرى ما يؤكد حاجة مستشفياتها إلى مزيد من العناية والاهتمام.