نتنياهو يُحقق طموحاته العدوانية
الذين كانوا يُتابعون مراحل حياة بنيامين نتنياهو ونشاطه السياسي منذ أن كان طالباً في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، يُدركون أنه سيكون له في يوم ما شأن في زعامة أحد الأحزاب الإسرائيلية المتطرفة فقد كان منذ شبابه خطيباً مفوَّهاً ومحاوراً ماهراً، ومجاهراً بكرهه للعرب، ولكنه غالباً ما يُبرز الاعتداد بالنفس زيادة عن اللزوم ويتحدث وهو منتفخ الأوداج وبلكنة أمريكية يظهر عليها شيء من التكلف. والرجل مراوغ من الدرجة الأولى، فهو يُحاول أن يُبقي على الائتلاف المتطرف في حكومته بتنفيذ وعود قطعها على نفسه أيام الانتخابات، وفي الوقت نفسه يبذل مجهوداً متواضعاً في استرضاء الإدارة الأمريكية وكسب تأييدها لمشاريعه الاستيطانية. وعلى الرغم من أنه كان قد وصل إلى منصب رئاسة الحكومة منذ عدة سنوات ولفترة قصيرة، إلا أن فوزه الأخير في الانتخابات الرئاسية للمرة الثانية جاء في وقت لم يكن يحلم فيه بأفضل منه ظرفاً وواقعاً فالوضع السيئ الذي تعيشه القضية الفلسطينية في الوقت الحاضر وانفلات الزعامة الفلسطينية بسبب الخلافات الصبيانية بين رفقاء السلاح أمر يُسعد نتنياهو وزمرته ويجعل تصرفاتهم العدوانية بحق مستقبل الشعب الفلسطيني في حلِّ من المساءلة في ظل غياب غير معهود لأي جهة تُمثل كامل الشعب الفلسطيني.
لقد أدرك نتنياهو أن الشعب الفلسطيني وقياداته المتهالكة والمنقسمة على نفسها قد وصلوا إلى حد الانهيار الكامل، وأنهم ليس لديهم القدرة ولا حتى الرغبة في مواجهة سياسة العدو الصهيوني المتمثلة في طمس معالم القضية الفلسطينية محليا ودوليا، وهو لن يُفرِّط في هذه الفرصة الذهبية. لقد استهل رئاسته للحكومة بمحاولة شد انتباه المجتمع الدولي إلى الخطر الإيراني المزعوم وبرامج إيران النووية التي يدَّعي نتنياهو أنها تُهدد أمن الدولة الصهيونية، وذلك من أجل أن يصرف الرأي العام العالمي عن القضية الفلسطينية التي مع الأسف أصبحت دون راع، لأن القوم هناك مشغولون كل بشؤونه الخاصة. والذين نحسب أنهم يعملون بإخلاص مُحاصرون في مواقعهم من الجهات الأربع ولا أمل في نجاح مجهودهم إلا عن طريق انتخابات عامة جدية ونزيهة، لا سبيل لإجرائها اليوم.
وزيادة في التضليل والخداع عمدت إسرائيل إلى تحريك قطعها البحرية عبر منافذ البحر الأحمر باتجاه الشواطئ الإيرانية لتوهم المجتمع الدولي بأنها تُمهِّد لهجوم على مرافق إيران النووية. ونحن نعلم أنها لن تجرؤ على فعل ذلك لأسباب كثيرة، لعل أهمها العقاب الذي ينتظرها من إيران إن هي فعلت، وتيقنها من أن أي اعتداء عسكري من جانبها على إيران ستكون له تداعيات اقتصادية خطيرة يطول تأثيرها العالم أجمع، إذ من المؤكد أن إيران إذا تعرضت منشآتها لهجوم عسكري ستعمد إلى تعطيل سير حاملات النفط عبر مياه الخليج، ناهيك عن إشاعة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط. وكما ذكرنا في مقالات سابقة، فزعماء إسرائيل يدركون تماماً أن إيران النووية وغير النووية ليس لديها ما يُبرر مهاجمتها لدولة إسرائيل في أي زمن وتحت أي ظرف من الظروف، وتصرفات كلا الطرفين الدعائية والإعلامية ضد بعضهما كله خداع في خداع. وقد تناقلت الأخبار أخيرا إقدام الرئيس الإيراني السيد أحمدي نجاد على تعيين رجل يرتبط معه بعلاقة مصاهرة كنائب أول له، ويُنسب عنه قوله إن إيران صديقة لشعب إسرائيل. وربما أن نجاد تراجع أخيرا عن هذا التعيين بسبب الضغوط التي مُورست عليه من جانب معارضيه، ولكن ليس بسبب ميول قريبه إلى إسرائيل بل بسبب صلة القرابة بينهما. ومن المؤكد أن هذه ليست حالة شاذة في إيران، ولا بد أن نسبة كبيرة من الشعب الإيراني لا يُكنون لدولة إسرائيل أي نوع من العداء.
وما يهمنا هنا هو تلاعب نتنياهو بقضية الشعب الفلسطيني ومحاولة التقليل من شأنها فهو عند ما يتحدث عن القضية تحت الضغوط الدولية والإقليمية، وعلى وجه الخصوص عن مستقبل وضع الشعب الفلسطيني على ما تبقى له من أرضه، يعمد إلى وضع شروط لا نقول إنها مجحفة بحق الفلسطينيين، بل تعجيزية ويصعب التعامل معها، وذلك لأن مصلحة إسرائيل الحالية والمستقبلية تستدعي ترك الأمور على ما هي عليه اليوم، وهو ما يُعطيها كامل الحرية في التوسع الاستيطاني وقتل روح الشعب الفلسطيني عن طريق التجويع والتهجير وفرض القيود على حياتهم ومحو الآثار والمعالم العربية حتى يشعر الجيل الجديد منهم وكأنهم غرباء على أرضهم. بل إن حكومة العدو الصهيوني تحت زعامة حزب الليكود بدأت هذه الأيام تُسرِّب أخباراً في كل الاتجاهات عن نية إسرائيل تهجير المواطنين العرب داخل الأراضي المحتلة إلى بلدان عربية مجاورة، وذلك كجزء من مخطط سياساتها العدوانية والعنصرية التي تعمد إلى تحويل إسرائيل إلى دولة يهودية صِرفة خالية من الأجناس والديانات الأخرى.
وإنه لمن المؤسف والمخجل أيضا أن يتفرد نتنياهو بالقضية ويحصرها بينه وبين الولايات المتحدة ممثلة في الرئيس أوباما الذي لا يملك من عوامل الضغط على الزعامة الإسرائيلية إلا اليسير، بينما نتنياهو يعتمد على تأييد مجلسي الشيوخ والنواب المطلق للدولة اليهودية، وهو يُدرك تماماً أن لا خوف على المساعدات الأمريكية السخية لدولة إسرائيل، مما يُقلل من فاعلية أي ضغوط أمريكية على نتنياهو. أما أصحاب القضية فمغيبون عن الساحة بمحض إرادتهم ونتنياهو يُخطط ويُنفذ على راحته بداية بتهويد مدينة القدس ومسح الأثر العربي فقد رفض ''اقتراحاً'' أمريكياًّ أن تُجمِّد الحكومة الإسرائيلية بناء مستوطنات جديدة داخل أحيائها الشرقية، فصرح باستعلاء وتكبُّر قائلاً: إنها العاصمة الأبدية لليهود، وإنه لا يقبل من أحد ''حتى و لو كان ذلك من معازيبه الأمريكان'' أن يتدخَّل في هذا الشأن. وما الذي يستطيع فعله باراك أوباما أمام هذا النمرود وهو يُشاهد أصحاب الأرض وهم غارقون في وحل محاوراتهم البيزنطية في القاهرة حول طلب كل فريق بأن يطلق الطرف الآخر السجناء الموقوفين داخل سجون محميته قبل أن يتنازل ويساوم على نصيبه من السلطة.