حرب «المقاريد»
عند ما كانت تندلع تلك الحروب المجنونة بين بلدين فقيرين مثل إثيوبيا وإريتريا، وبين القبائل الأفغانية، عقب انتصار المجاهدين على الجيش السوفياتي، كنا نطلق عليها «حرب المقاريد»، وتعني باللهجة العامية عندنا أحد أمرين: فكلمة «مقرود» تعني أن الإنسان الموصوف بها بخيل. وتعني أيضا سيئ الحظ الذي يكون محروماً من نعم الله عليه بفعله هو. ونحن هنا نشير بالعنوان إلى المعنى الأخير. واليوم ينطبق هذا الوصف على ما هو حاصل على أراضي الصومال المنكوب فمنذ أكثر من 20 عاماً والصوماليون يتذابحون فيما بينهم وعلى أرضهم كما تفعل الحيوانات، وكثيراً ما يستعين بعضهم بقوات عسكرية أجنبية ضد الطرف الآخر إمعاناً في التنكيل، ومما يثير الاستغراب أن الذين يتحاربون اليوم كانوا منذ مدة وجيزة رفاق سلاح. وأصبح الشعب المسكين المغلوب على أمره ضحية لهذا الجنون الذي لم يكن له مبرر على الإطلاق. ومن المفارقات أنك تشاهد أفراد الميلشيات وهم يحملون الرصاص وأنواع الأسلحة الفتاكة وبطونهم خاوية. أي بدلاً من أن يُوفروا لأنفسهم ولعائلاتهم ما يسُّد رمقهم ويحميهم من الجوع والأمراض، يتلهون بأدوات الموت ولا يحصدون إلا الخيبة والدمار لبلدهم.
والمحزن أنهم يجدون من يمدهم بالسلاح من الدول المجاورة ومن الجماعات المتطرفة ذوي النوايا الخبيثة التي أقل ما يُقال عنها إنها محرومة من مخافة الله. وقد جرب هؤلاء المتحاربون حرب الكر والفر خلال السنوات الماضية ولم ينتصر أحد منهم، فلماذا هذا الإصرار على إزهاق أرواحهم وتشريد أهلهم وأبنائهم وتدمير بنيتهم التحتية التي هي في الأصل هشة وبدائية. ونقول: اللهم لا شماتة، حتى المساعدات الإنسانية التي تحاول بعض الدول تقديمها للشعب الصومالي ليس لديها من سبيل لتوصيلها إلى مستحقيها بسبب السلب والنهب الذي تمارسه الفئات المتحاربة. هل ذهبت العقول وبقيت الأحقاد والنفوس الشريرة؟ يا إخوان ويا «مقاريد»، أغلب شعوب الأرض تنعم بالهدوء والسلام والعيش الهنيء، وأنتم اخترتم لأنفسكم الموت والدمار تماماً كما تفعل الوحوش، وإن كانت الوحوش تُحافظ على نسلها، أما أنتم فتقضون عليه بالسلاح وبالتجويع. الشعب الصومالي المُتديِّن الشهم أصبح اليوم يمارس القرصنة ويُعرض نفسه للعقاب الجماعي من قِبل المجتمع الدولي ويُعطي انطباعاً عن نفسه بأنه مجموعة من العصابات التي تعيث في الأرض فساداً، على الرغم من وجود كثيرين بينهم من العلماء وأهل الصلاح الذين لم يستطيعوا عمل الكثير من أجل الحيلولة دون استمرار حالة الحروب والمنازعات التي لن تُؤدِّي بهم إلا إلى الهلاك.
ومما يندى له الجبين غياب أي اهتمام للمآسي التي تحصل في بلاد الصومال من قبل المجتمع الدولي على وجه العموم ومن دول الجامعة العربية على وجه الخصوص فلو لعبت الجامعة العربية دوراً إيجابياًّ نحو إصلاح ذات البين بين الأطراف المتحاربة من البداية لما طالت فترة النزاع إلى ما يزيد على 20 عاماً. نحن نذكر أن الأمم المتحدة حاولت في بادئ الأمر مساعدة الصوماليين عن طريق إرسال المساعدات الغذائية ولكنها أنزلت مع المساعدات الإنسانية عدداً كبيراً من الجنود المدججين بالسلاح من دول لا صلة بين ثقافتها وثقافة الشعب الصومالي، مما أحدث تصادماً خطيراً بين جيوش الأمم المتحدة وبعض الميليشيات المحاربة، وزاد من شراسة الذين قدموا من أجل السلام. ووجدوا أنفسهم في مأزق حرج، فلم يكن لهم بد من الخروج من أرض الصومال تاركين الأمور في وضع أكثر سوءاً من ذي قبل. وهكذا استمر عهد المنازعات والحروب بين «المقاريد» إلى يومنا هذا، ولا أمل في الخروج من وضع تطبَّعوا عليه عشرات السنين.
وكلمة «لو» لا تسقي شربة ماء، وإلا لقلنا لو أن إخوانهم في الحكومات العربية تحملوا مسؤولياتهم وأصروا على التدخل في شؤونهم قي وقت مًبكر وفضوا النزاع، كما تفعل الآن بعض الدول العربية مجتمعة أو منفردة عند ما تجمع الفرقاء المتخاصمين في أي من الدول العربية للإصلاح بينهم، والصومال بلد عربي وعضو في الجامعة العربية. وهل الوقت الآن مُتأخر بالنسبة للمصالحة بينهم؟ نقول أبداً، ولكن الوضع الحاضر يتسم بحساسية مفرطة ويحتاج إلى دراسة وتأنٍّ والاستعانة بكم كبير من الحكمة وخلق جو ثقة مقبول من الجميع، على أساس أن مصلحة الشعب الصومالي المنكوب تكون هي الهدف من إجراء المصالحة، وألا يكون هناك من المتحاربين كاسب ولا خاسر. وأهم ما يجب مراعاته هو إبعاد المصالح الإقليمية من النزاع، سواء للدول المجاورة أو الدول صاحبة النفوذ العالمي والأساطيل البحرية، لأنه في النهاية الكل، القريب والبعيد، سيكون مستفيداً من الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلاد الصومال، بموقعها الاستراتيجي على المحيط الهندي. الصومال ليس بلداً مُحتلاًّ ولا تحكمه فئة ضالة ولا يُسيطر عليه حاكم مُستبد وبلد فقير بالمعايير الدولية وشعبه يُعاني تدنِّي مستوى التعليم ويحتاج إلى مجهود كبير لكي يصل إلى الحد الأدنى من مستوى المعيشة، فعلى أيِّ شيء يتقاتلون؟ ولنفرض جدلاً أن أحد الفرقاء يظن أن لديه مقدرة أفضل من الآخرين على رفع مستوى الشعب الصومالي التعليمي والمعيشي. ألا يُدرك هؤلاء وأولئك أنهم الآن يدمرون مستقبل بلادهم إلى الأبد؟ وأنهم - حفظهم الله - وهداهم يحصدون عكس ما يريدون؟ أم أن المتحاربين، كفانا الله وإياكم شرهم، لا يُمثلون إلا قُطَّاع طرق ابتُلي بهم الصومال؟ وماذا يرجو منهم الصومال وهم يُطلقون النار عشوائياًّ داخل المدن ويرمون المتفجرات بين الأحياء فتقتل وترعب النساء والأطفال؟ هذه الأعمال والممارسات لا يمكن أن تُصنَّف من ضمن عوامل الحرص والغيرة على مصلحة شعب الصومال. ونحن لبعدنا عن موطن الحدث، لا نستطيع أن نحكم أي الفئتين أقرب للصواب. ولكن الوضع الحالي ومتطلبات مستقبل هذا الشعب المنكوب يُحتمان على كلا الطرفين أن يتركا الساحة الصومالية إلى منْ هم أجدر بتحمل المسؤولية.