استراتيجية 2025.. حدث ينبع
إجمالي الناتج المحلي، والتضخم، وأسعار الفائدة، والبطالة، أربعة معايير رئيسة تعتمدها أدبيات الاقتصاد الكلي لقياس النمو الاقتصادي للمنظومات الاقتصادية، محلية كانت أو إقليمية أو دولية. وعلى الرغم من اشتراك هذه المعايير في قياس النمو الاقتصادي، إلا أن إجمالي الناتج المحلي يعد الأكثر شيوعا وشهرة في إعطاء صورة أكثر وضوحا عن المستوى المعيشي للمنظومة الاقتصادية.
تتجه أدبيات الاقتصاد الكلي إلى ثلاث آليات لقياس إجمالي الناتج المحلي: إجمالي المصروفات الموجهة للحصول على المنتجات والخدمات المتاحة للتبادل التجاري. وإجمالي الإنتاج من القطاعات الإنتاجية، كالبتروكيماويات والزراعة، المكونة للمنظومة الاقتصادية. وإجمالي العوائد من القطاعات الإنتاجية المكونة للمنظومة الاقتصادية.
تعد الآلية الأولى الأكثر شيوعا لقياس إجمالي الناتج المحلي. حيث تعرف من المنظور الرياضي على أنها حاصل جمع كل من الاستهلاك، والاستثمارات الثابتة، واستثمار المخزون، والمشتريات الحكومية، والفرق بين مجموعي الصادرات و الواردات.
تتباين المنظومات الاقتصادية في التعامل مع مكونات إجمالي الناتج المحلي هذه تباعا لتباين سياساتها المالية بين سياسات توسعية وتقشفية. وتتباين تباعا نتائج النمو الاقتصادي بين نمو، وازدهار، وانكماش، وكساد.
من التجارب الواقعية في هذا الجانب تجربة الاقتصاد الأرجنتيني خلال عقد التسعينيات الميلادية من القرن الماضي. تمثل التجربة واقع نتائج اتساع فجوات إدارة السياسة المالية خلال عملية التعامل مع مكونات إجمالي الناتج المحلي.
شهدت الأرجنتين خلال تلك الفترة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. عزيت أسباب النهضة التنموية الشاملة إلى عدة عوامل رئيسة من أهمهما برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي قاد تنفيذه الرئيس الأرجنتيني خلال تلك الفترة الزمنية، كارلوس منعم، ووزير ماليته، دومنجو كفالو.
ارتكز برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل هذا على أربع سياسات مالية رئيسة. السياسة الأولى ربط العملة النقدية، البيسو الأرجنتيني، بالدولار الأمريكي، وإنشاء مجلس اقتصادي تحت اسم مجلس العملة النقدية ليتولى بموجبه تنفيذ جميع المهام الإشرافية والتنفيذية ذات العلاقة بالارتباط بالدولار الأمريكي. وفتح الاقتصاد الأرجنتيني أمام الاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية. وتخصيص مجموعة كبيرة من المؤسسات والشركات الأرجنتينية العامة.
سرعان ما أتت ثمار البرنامج أكلها عندما بدأ الاقتصاد الأرجنتيني الدخول في مرحلة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. من أهم مؤشرات هذه النهضة التنموية انخفاض معدل التضخم، وزيادة وتيرة تدفق الاستثمار الأجنبي، وتسجيل معدل نمو سنوي قارب الـ 5.7 في المائة.
تزامنت هذه النهضة التنموية مع ثلاثة تطورات في السياسة المالية الأرجنتينية: التوسع في الإنفاق الحكومي على مشاريع تطوير البنى التحتية دون رفع نسب الضرائب، والاعتماد على المصارف الأرجنتينية لتمويل مشاريع الإنفاق الحكومي قبل وضع حدود ائتمانية، وافتراض أن النهضة التنموية الحاصلة من النوع المستديم عوضاً عن المؤقت دون وضع سياسة إدارة مخاطر مالية لتفادي العواقب عند حدوث عكس المفترض.
استمرت هذه النهضة التنموية حتى 1996 قبل أن تحد من درجة نموها وتدخل الاقتصاد الأرجنتيني في دوامة ركود اقتصادي حتى 2002. ستة أعوام من الركود الاقتصادي فترة زمنية كافية للقضاء على اليابس ناهيك عن الأخضر في اقتصاد طموح متوسط الحجم والمتانة كالاقتصاد الأرجنتيني.
عزيت أسباب الركود الاقتصادي أيضاً إلى البرنامج ذاته بسبب وجود ثلاث فجوات منطقية. الأولى منهجية مجلس العملة النقدية الإشرافية والتنفيذية في إدارة ارتباط البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي. والثانية تراجع قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات العالمية الأخرى. والثالثة تواضع التنسيق التجاري البيني مع جارة الأرجنتين وشريكتها التجارية الرئيسة، البرازيل.
وضعت هذه الفجوات الثلاثة برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الأرجنتيني أمام تحديين. الأول بلوغ الحكومة الأرجنتينية حدها الائتماني لدى المصارف الأرجنتينية بسبب استنفاذ هذا الحد في تمويل برنامج التوسع في الإنفاق الحكومي. والثاني امتداد للتحدي الأول والمتمثل في عدم تجاوب المصارف الأجنبية لتوفير التمويل اللازم لدعم الصادرات الأرجنتينية للأسواق العالمية.
انعكست هذه التحديات الاقتصادية بالسلب على ثقة المواطن الأرجنتيني والمستثمر الأجنبي في متانة الاقتصاد الأرجنتيني. فبدأ المواطن الأرجنتيني حملة تحويل ما يقرب من 15 مليار دولار أمريكي من سيولته في المصارف الأرجنتينية إلى مصارف خارجية أكثر أمناً، وبدأ في الوقت ذاته المستثمر الأجنبي في تحويل استثماراته من الاقتصاد الأرجنتيني إلى اقتصادات أخرى أكثر تنافسية، مهدداً بهذا التحويل مستوى البطالة.
شكل هذان السلوكان من المواطن الأرجنتيني والمستثمر الأجنبي تحديا ثالثا أمام برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الأرجنتيني. تمثل التحدي في توقف برنامج معالجة الدين العام والمقر مسبقاً بالتنسيق مع المصارف الأرجنتينية بسبب عدم وجود السيولة الكافية.
لم تجد الحكومة الأرجنتينية أمام هذه التحديات الثلاثة سوى إقرار سياستين ماليتين جديدتين. الأولى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لترتيب تمويل مناسب يساعدها على مواجهة هذه التحديات. والثانية تعليق عمل مجلس العملة وفك ارتباط البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي.
انعكست هاتان السياستان في المدى القصير على مستوى معيشة المواطن الأرجنتيني مطلع 2002. فسجلت السلع ارتفاعاً ملحوظاً وصل قرابة 40 في المائة، وزاد معدل البطالة حتى قارب 25 في المائة، وبلغ الدين العام 155 مليار دولار أمريكي، وانخفضت قيمة البيسو الأرجنتيني إلى 3.5 مقابل الدولار الأمريكي الواحد بعد أن كانت تساوي بيسو أرجنتينيا واحدا فترة التسعينيات الميلادية من القرن الماضي.
يعيش الاقتصاد الأرجنتيني هذه الأيام مرحلة نقاهة تبدو كأنها مرحلة نمو جديدة بعد أن اجتاز بصعوبة مرحلة ركود اقتصادي استمرت أربعة أعوام كانت كفيلة بالقضاء على اليابس ناهيك عن الأخضر، فتحسنت قيمة البيسو الأرجنتيني إلى ثلاثة مقابل الدولار الأمريكي الواحد، ونما مستوى الصادرات على حساب الواردات الأرجنتينية، وتراجع معدل البطالة، وعادت ثقة المواطن الأرجنتيني والمستثمر الأجنبي بمتانة الاقتصاد الأرجنتيني.
تقودنا هذه الخلاصة التنظيرية عن إجمالي الناتج المحلي، والتجربة العملية عن الاقتصادي الأرجنتيني إلى ما حدث منتصف الأسبوع الحالي على ضفاف شاطئ البحر الأحمر. حيث تفضل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتدشين مشروع تطوير مطار الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز، ومشاريع الهيئة الملكية في ينبع، ومشروع شركة ينساب التي تصل تكاليفها إلى 45 مليار ريال. تدعم جميع هذه النفقات أربعة مكونات من أصل ستة من مكونات إجمالي الناتج المحلي: الاستثمارات الثابتة، واستثمار المخزون النفطي، والمشتريات الحكومية، والصادرات. ستسهم هذه النفقات في دعم بلوغ أهداف وآفاق استراتيجية 2025م حسبما هو معد ومخطط، بعون الله تعالى.