رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الاقتصاديون والأدباء من الجفاء إلى الوئام

استغربت كلمات خرجت من أفواه متحدثين من العاملين في الشأن الثقافي السعودي في لقاء تلفازي على هامش فعاليات ''مهرجان عكاظ''، حيث قال أحدهم ما معناه ''إن مهمتنا تعزيز الثقافة السعودية لتتصدى للثقافات الأخرى''، واستغربت ذلك لأنني كنت أتوقع أنه سيقول ''نعزز الثقافة السعودية لكي تصبح أكثر قدرة على التفاعل مع الثقافات الأخرى''، فالتفاعل كلمة أكثر بلاغة، إذ إنها تعني تصدير ثقافتنا لتختبرها الثقافات الأخرى وإتاحة الفرصة للآخر لطرح ثقافته لتختبرها ثقافتنا لنأخذ النافع ونقصي الضار، خصوصا أن ثقافتنا تستند إلى مرجعية قوية، وهي ثوابت الدين الإسلامي الحنيف.
بعد مشاهدة هذا اللقاء أصبحت أكثر قناعة أن المتخصصين في المجالات كافة في بلادنا يعمل كل منهم بمعزل عن الآخر، وكأن تخصصاتهم لا تلتقي أو تتقاطع، فالأدب لا علاقة له بالاقتصاد، والعلوم لا علاقة لها بالأدب، والأدب لا علاقة له بالإدارة، والعلوم الاجتماعية لا علاقة لها بالاقتصاد أو السياسة وهكذا، وهو ما يجعلني أشعر أن العلاقة بين المتخصصين في بلادنا علاقة جفاء أكثر من كونها علاقة وئام سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الفكري والمعرفي وهو ما يجعل الجميع يعمل في جزر منعزلة، بل ويزدري بعضهم البعض الآخر، على اعتبار أن تخصصه أهم وأكثر حيوية، رغم أنها تخصصات مهمة وحيوية في مجملها إذا تكاملت.
في النظام الاقتصادي الاشتراكي غابت حوافز العطاء والإنتاج، فتحرك الأدب الروسي لمعالجة هذه المشكلة من خلال تعزيز دوافع العطاء والإنتاج باستخدام القصة والرواية وغيرها من الفنون الأدبية، ما أدى إلى نهضة علمية واقتصادية كبيرة ما لبثت أن تهاوت أمام النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي عزز دوافع العطاء والإنتاج والابتكار والإبداع من خلال تعزيز منظومة القيم والمفاهيم بتحريك آلة الإبداع الأدبي والفني، كما عزز الحوافز بجميع أنواعها من مكافآت وتقدير وثناء وجوائز، فأصبحت الغلبة له، لأنه يتحرك بمحركين جبارين مقابل محرك واحد في النظام الاقتصادي الاشتراكي.
في بلادنا، كما هو حال الدول التي يعتمد اقتصادها على النفط كمورد طبيعي رئيس، غلبت الرعوية في العقود الماضية على المشهد الاقتصادي، حيث تقوم الحكومة بتطوير وتمويل وتشغيل المشاريع الخدمية، كما تقوم بتوظيف الغالبية من المواطنين، إضافة إلى برامج الدعم والمساندة للأفراد والمؤسسات في القطاعات الاقتصادية كافة التي تعتمد بشكل رئيس على الإنفاق الحكومي المتذبذب بتذبذب أسعار النفط صعودا ونزولا، وهذا الوضع بطبيعة الحال أدى إلى ضعف في دوافع وحوافز العطاء والإنتاج والابتكار والإبداع وضعف المؤسسات التي تقف وراء هذه القيم ومفاهيمها، إضافة إلى غياب المفكرين الذين يجب أن يقفوا وراء غرس وترسيخ هذه القيم ومفاهيمها.
نتيجة لارتفاع عدد السكان في بلادنا والتضخم العالمي المتزايد سنة بعد أخرى، ونتيجة لتذبذب إيرادات النفط المقرونة بانخفاض قيمة الدولار الشرائية (قيمة الدولار اليوم أقل من قيمة الدولار قبل عام 86 بنحو 60 في المائة) أصبح من المستحيل الاستمرار في النهج الاقتصادي الرعوي، وأصبح من الضروري التحول إلى قوى السوق لدعم الاقتصاد السعودي لتوفير السلع والخدمات والفرص الوظيفية، وهو ما يعني ضرورة معالجة منظومة القيم والمفاهيم المتعلقة بالعمل والابتكار والمنافسة لتعزيز قوة عناصر الإنتاج لرفع الجودة وخفض التكلفة وتقليص الزمن الإنتاجي في زمن يأكل فيه الأسرع الأبطأ.
العنصر البشري يعد العامل الأهم في معادلة عناصر التنافسية الاقتصادية، سواء على مستوى المنشآت الاقتصادية أو على مستوى الدول، والعنصر البشري السعودي يعاني ضعف الدوافع مقرونا بضعف بالحوافز، وكلنا يعلم أن الحوافز بيد المنشآت الاقتصادية وهي من تقدمها لمواردها البشرية بهدف حثهم على العطاء والإنتاج والابتكار والإبداع، ولكن الدوافع الناشئة عن قناعات وقيم ومفاهيم راسخة في أذهان الموارد البشرية ما هي إلا نتاج الثقافة والتعليم معا عبر سنوات طويلة.
الخلل التعليمي واضح ومعروف ومعترف به، وبرنامج الملك عبد الله لتطوير مرفق التعليم يعمل على معالجة المدخلات والعمليات التعليمية لرفع جودة المخرج التعليمي، الذي تخرجه لنا مؤسسات التعليم العام في بلادنا، كما أن وزارة التعليم العالي شرعت منذ مدة في تطوير التعليم العالي لرفع جودة مخرجاته أيضا، إضافة إلى ما تقوم به مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني من جهود كبيرة وجبارة أيضا، ولكن الخلل الثقافي، خصوصا في منظومة القيم والمفاهيم الاجتماعية المُشكٍلة لقيم ومفاهيم الإدارة والإنتاجية، ما زال قائما ولا نرى أي جهود مؤسساتية لمعالجته بتوظيف الآداب والفنون كما هو الوضع في الدول المتقدمة.
بكل تأكيد إذا لم نقم من خلال مؤسساتنا الثقافية، إضافة إلى المؤسسات التعليمية، ببذل جهود مخططة ومقصودة ومتواصلة لترسيخ منظومة قيم ومفاهيم ومعارف تدعم مسيرة التحول الاقتصادي في بلادنا، فإن الغير سيقوم ببناء هذه المنظومة كما يحلو له من خلال ما يملك من وسائل اتصال ومن منتجات أصبحت تشكل ثقافتنا دون أن نشعر بذلك، وهذا وضع غير مقبول، ولكي تقوم مؤسساتنا الثقافية بهذا الدور فإنها تحتاج إلى كفاءات محترفة وموهوبة في مجال الآداب والفنون تدرك تماما ماذا يدور حولها اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، وثقافيا والاتجاهات المستقبلية في هذه المجالات، وقادرة من خلال أدواتها على غرس وترسيخ منظومة قيم ومفاهيم وقناعات تشكل في مجملها ثقافة العطاء والإنتاج والابتكار والإبداع وغيرها، التي تمثل الدعامة الرئيسة للنهضة العلمية والتقدم الحضاري في مختلف المجالات والميادين الحياتية باعتبارها دوافع قوية لأفراد المجتمع السعودي لتعزيز القدرات التنافسية، بما يعزز نجاح مسيرة التحول الاقتصادي المحقق للأهداف التنموية الشاملة والمستدامة والمتوازنة في بلادنا العزيزة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي