رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


السياحة .. وطن في الوطن

تكاد تكون كل شوارع مدن العالم متشابهة: أسمنت وأسفلت ووجهات زجاجية تلمع في ضوء الشمس وتسيح ليلا في أضواء المصابيح وبريق لوحات النيون على الحيطان وفي المفارق. ولا ينتشلك من التباس المكان سوى سحنات الوجوه وتضاريسها واللباس واللغة التي يتحدث بها العابرون لتعرف ـــ مثلا ــــ أنك في المملكة العربية السعودية، لكنك، لكي تنعم بملذات فردوس المكان تحتاج إلى مَن يقف بك إلى حيث النكهة ويدهشك بما لا تقوله هذه الشوارع ولا تلك الواجهات.. وهذا ما تستهدف الهيئة العامة للسياحة والآثار القيام به.
وأصدقكم القول.. قبل زيارتي مع زملائي الأفاضل من كتاب «الاقتصادية» وصحفييها، بدعوة كريمة من صاحب السمو الملكي رئيسها الأمير سلطان بن سلمان لم يكن هذا الدور واضحا في ذهني، حتى غمرنا حديث كوكبة من قياداتها الشابة الموفرة العلم والخبرة والحماس، سمعنا ورأينا من خلاله كيف تم تنظيم قدر هائل من المعلومات والمهام وفق برامج وآليات «مميكنة» ومدونة ومحاطة بالرعاية والمتابعة والإشراف على أرض الواقع من البحر إلى البحر.
ولم أكن لأعرف حجم العناء والجهد المبذول إداريا وفنيا وماليا وتشريعيا وتسويقيا حتى تدفق حديث سمو رئيس الهيئة لمدة ساعتين ونصف وكأنه يقرأ من كتاب، طاف بنا على بساطه السحري، أرجاء الوطن مستعرضاً المخزون الهائل من تراث وطننا الثقافي والحضاري الفريد الضارب جذوره في أعماق التاريخ، وروائع فتنة بيئاته المتنوعة فاتحا قاموس إنثروبولوجيا الوطن بزخم أعرافه، عاداته، تقاليده، وإرثه العريق الجامع بين ثقافة الصحراء والساحل والسهل والجبل واستهدافات الهيئة في حشد سياح الداخل أولا لإقامة علاقة حب مع كل ذلك ومع جغرافيا الوطن وتاريخه والاستمتاع بمباهج تراثهم الثقافي وبالمرافق والخدمات التي تهرول الهيئة هنا وهناك، مع الدولة والقطاع الخاص لكي تجعلها واقع ما تطلعت إليه استراتيجيتها الطموحة. وبعد.. يبقى أن الميراث الثقافي بكل تجلياته هو القلب النابض للسياحة والذي من أجله تشد الرحال: جلسات السمر، الرقصات الشعبية والغناء، تهدج أصوات فرق السامري ودمدمة طبولها، الدانة، المزمار، الخطوة، بيوت الشعر والخيام، عزف الربابة، أو السمسمية رنين النجر، رائحة الهال، تحميص حبات البن بالمحماس، دلال القهوة، قرص البر، أكلاتنا التراثية، وقل مثل ذلك في طقوس أعراسنا، ولائمنا، وأعيادنا، وفي حرفنا وأدواتنا وفي اللباس والحلي وأجواء قرانا بهوياتها السابقة وأسواقنا الشعبية بعروض البيع فيها، بصنائعها بدهاليزها، فضلا عن مفردات مواقع آثارنا وتحفنا التاريخية الزاخرة الثراء والإغراء وطبيعتنا وما فيها من جاذبية خاصة.
إن أمريكا تأخذك إلى استوديو هوليوود، واستمات «وولت ديزني»، كي يستنطق في مدينته موروث بلاده من الأساطير أو حكايات المهاجرين الأوائل والقراصنة والهنود الحمر والكاوبوي تطوف بها وأنت في رحلة قارب أو في المغارة السحرية أو في مسرح الدمى أو ميكي ماوس مع أن أمريكا البلد الصبية الأحدث في العالم، كما تزج بك اليابان في صروحها الصناعية أو مسرحها الهائل «المميكن» لكنها تحرص على أن تأخذك لمعبد الشنتو والحي الإمبراطوري وتجلسك في حضرة إعداد الشاي التقليدي ومائدة الساموراي.. هكذا هي السياحة وطن في الوطن لا يكثر خطابها إلا حين يكون لها طعم ورائحة ولون وصوت هذا الوطن.. عندها تتفتح في السائح عيون وآذان كثيرة لكي يرى ويسمع أكثر.. وكم هو تحد كبير، أمامنا نحن كوطن لننهض بصناعة السياحة، وكم هي جسارة من الهيئة العامة للسياحة والآثار أن تصر على هذه الصناعة.. لكن التحدي والجسارة هما الجناحان اللذان بهما تحلق السياحة!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي