قالب غربي يتحدث باسم الجوهر الإسلامي
في أحد المؤتمرات الأخيرة لهيئة عالمية مختصة بصناعة المال الإسلامي يعتلي المنصة أحد المستشارين الكهول ليتحدث في إحدى الجلسات ليوجه أصابع الاتهام للهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية بسبب عدم توحيد رأيها بخصوص الخلافات الشرعية، ولينتقد بشدة الأثر السلبي البالغ من جراء هذا الاختلاف الذي ينعكس على تقدم مسيرة العمل المالي الإسلامي كما أشار، وتستمع له الآذان من كافة الجنسيات العربية والأجنبية وتتعالى الانتقادات الجانبية عن سبب جرأته على مسألة حساسة بالنسبة لكبار الفقهاء في العالم الإسلامي، فما بالك بمن هو ضليع بعلم المحاسبة الدولية وبعيد كل البعد عن فهم جوهر الدين الإسلامي، إذ لا يدين به، وهو من أهم المتحدثين فيما يخص العلوم المالية الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك نسمح له بأن يبدي رأيه في منطقة خارج نطاق تخصصه وخارج نطاق فهمه الديني.
وفي مؤتمر آخر عُقد في لندن حول المصرفية الإسلامية أيضا احتج أحد الحضور وتسبب احتجاجه وجرأته في تعالي الأصوات المؤيدة له في القاعة، وكان جوهر الاحتجاج على أن أغلب المتحدثين باسم صناعة المال الإسلامي ليسوا من المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه إعلان واضح بافتقارنا إلى الخبراء المسلمين وهذا ما لا يؤيده الواقع، أو على استهتار القائمين على تنظيم هذه المؤتمرات الدولية بالكفاءات المسلمة في دول العالم الإسلامي مجتمعة وفي الغرب أيضا، وأن تعمق عقدة الشعور بالنقص أمام الأجنبي لم تسلم منها هذه الصناعة الفتية.
إن الحديث عن الخلافات الفقهية ومدى تأثر صناعة المال الإسلامي يكشف عن إشكالية ذات حساسية من نوع مختلف؛ فالعقم الاجتهادي له عوامل ساعدت على بقاء العقول الفقهية مقتصرة على فقه المذاهب دون الأخذ بمعطيات العصر، وعلى الرغم من أن الأئمة الأربعة في الفقه السني وغيرهم لم يكونوا متشددين في آرائهم إلا بالدرجة التي ترتبط بقوة الدليل والحجة إلا أن العلماء في زماننا يفتقرون إلى الاجتهاد المبني على الدليل والمثابرة في القياس والترجيح وعلى هيئة عليا تعتمد الشورى كأساس لتداول الرأي والرأي الآخر والترجيح بينهما.
إنه ومما لا شك فيه أن الدول التي امتلكت هيئة شرعية عليا بالنسبة للعمل المالي الإسلامي قد خطت خطوات واسعة في تطوير هذه الصناعة والنهوض بخطوات أكثر ثباتا من غيرها من الدول، وخير مثال على ذلك ماليزيا وإيران وباكستان.
هذه الدول وغيرها أقرت وجود هيئة شرعية عليا تتبع البنوك المركزية فيها لإقرار آراء الهيئات التابعة للبنوك أو المؤسسات المالية الإسلامية الأخرى كشركات التأمين التكافلي، وبذلك تكون مرجعية لأي خلاف ووسيلة إقرار لما ثبتته الهيئات الشرعية التابعة لهذه البنوك، وبالتالي يصبح الموضوع مختصرا وذا جانب إيجابي من ناحية استغلال الوقت والوقوف على كل حالة بحاجة إلى رأي موحد.
إن وجود هيئة شرعية عليا في كل دولة على حدة يسهل الطريق للعمل على وجود هيئة شرعية عليا لصناعة المال الإسلامي ككل، أي أنه يعتبر الخطوة الأولى في هذا الطريق، وتجسير هذه الفجوة التي تطاول على المجاهرة بانتقادها أساتذة غربيون لا يدينون حتى بدين الإسلام ويعتبرون من أوائل المستشارين للمؤسسات الإسلامية الدولية العاملة على تنظيم صناعة المال الإسلامي والناطقة باسم هذه الصناعة في العالم.
وبالعودة للخلافات الفقهية التي تتبع المذاهب الفقهية لكل مدرسة من المدارس التي نستطيع تقسيمها بحسب المناطق الجغرافية إلى المدرسة الخليجية والتي غالبا ما تتبعها منطقة بلاد الشام، وبمدرسة شرق آسيا التي غالبا ما تتبع هيئات شرعية عليا تتواجد في البنوك المركزية معززة بقوانين خاصة، أما بالنسبة لباكستان وإيران وعلى الرغم من الاجتهادات التي قد تختلف في بعض الممارسات إلا أنها أيضا مدعومة بهيئة شرعية عليا تتبع البنوك المركزية فيها؛ ما أدى إلى النهوض بهذه الصناعة وعدم تأثير الخلاف الفقهي على التوجه العام للأداء إلا بالقدر الإيجابي. أما بالنسبة لتأثير الخلافات الفقهية وآراء الهيئات الشرعية أو العلماء المؤثرين في هذا الاتجاه فإنه اتضح تأثير هذا الأمر بعد تصريحات الشيخ تقي الدين عثماني والتي أثرت في إصدارات الصكوك سلبا، ولم يكن العيب الأولي في الفتوى بقدر ما كان في الممارسة، وعليه فإن توجه العلماء الشرعيين لتحديد أطر رئيسية للتعامل مع أدوات التمويل أو المنتج المالي الإسلامي تصطدم على أرض الواقع بالقدر الذي يتفهم فيه الماليون والإداريون القائمون على طرح المنتج للتنفيذ في الأسواق للبعد الشرعي ومقدار إدراكهم لتأثير ارتباط المتعاملين مع هذا المنتج بالتداول بحجم سمعته المطابقة لحكم الشريعة، وعليه فإن التعامل مع المنتج بحساسية عالية لضمان ارتباطه بالمشروعية من بداية الإصدار إلى التداول في الأسواق أمر مهم لنجاح المنتج المالي، وبذلك يكون التكامل فيما بين علماء الشريعة المتخصصين في المعاملات المالية الإسلامية، وأن الماليين والإداريين القائمين على إبراز هذا المنتج في الأسواق مسؤولون مسؤولية كاملة عن سمعة هذه الصناعة من حيث ارتباطها التام بالحكم الشرعي من بداية تكوين المنتج إلى مرحلة التعاطي معه في المؤسسات المالية الإسلامية والأسواق. إنه من المتفق عليه أن صناعة المال الإسلامي تتعرض لمخاطر السمعة بلا شك وأن الأمر يتجاوز الطمع في تحقيق الأرباح السريعة ليرتبط ارتباطا مباشرا بالتأثير على مسيرة العمل المالي الإسلامي وهذا ما لا يسمح بالمجازفة به بأي حال من الأحوال.
وحتى نضمن عدم تطاول مستشارين غربيين سواء أكانوا يحملون فعلا ما يؤهلهم للجلوس على مقاعد المستشاريين للمؤسسات المالية الإسلامية أم أن المصالح الشخصية وعقدة النقص التي أشرنا لها هي التي ترفعهم إلى مدارج المتحدثين باسم هذه الصناعة، من الواجب على المؤسسات المالية الإسلامية والهيئات الدولية الناطقة باسمها أن تلتفت إلى أن ذلك من العيوب والسلبيات التي ستهزأ منها الأجيال القادمة والتي ترسخ بشكل أو بآخر عقدة النقص التي لا مبرر لها >
* باحثة متخصصة في الصيرفة الإسلامية والتمويل - ماليزيا