«أهل مكة أدرى بشعابها» دروس من الأزمة المالية العالمية
لا يخفى على الجميع الحكمة التي تجمعها الأمثال في وصف ما وتحليله بشكل بسيط وواضح وبكلمات موجزة والمثل الذي نحن بصدده في رأيي المتواضع يحكي لنا الطريقة التي تم التعامل بها من قبل الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء مع أسوأ أزمة مالية تمر على العالم منذ الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي.
بالنظر إلى ردة فعل الدول على هذه الأزمة المالية نجد أن كثيرا من هذه الدول والتي كانت تقود الفلسفة الرأسمالية للاقتصاد نجدها تتصرف بطريقة مخالفة (بل عكسية تماما) لنظريات هذه الفلسفة التي كانت دائما تنادي بعدم تدخل الدولة في تسيير الاقتصاد وهذا الإجراء هو تطبيق مباشر للمثل المذكور من ناحية أن هذه الدول رأت أنها أعلم وأدرى بمصالحها خلال هذه الأزمة وستتصرف بناء على ذلك ودعونا نستعرض ذلك بشيء من التفصيل.
الولايات المتحدة الأمريكية (راعية الرأسمالية العالمية) التي كانت دائما تحث الدول على تبني المنهج الرأسمالي في الاقتصاد وضرورة ترك «آليات السوق» تقوم بدورها في تصحيح الأوضاع بناء على نظرية البقاء للأصلح وترك الشركات الخاسرة تواجه الواقع حتى لو أدى ذلك لإفلاسها، هذه الدولة نجدها خلال عملية مواجهة الأزمة المالية تنسف تلك النظريات وراءها وتقوم بدعم مباشر لشركات خاسرة، بل وتقوم أيضا بشراء ما تم الاصطلاح عليه بـ «الأصول المالية السامة» لبعض الشركات وهذا تدخل صريح ومباشر من قبل الدولة في آليات السوق واستعمال للمال العام لمساعدة بعض المؤسسات أو الشركات المتعثرة ماليا وهو بالتأكيد مخالف لما جرت عليه العادة من نظريات الاقتصاد الرأسمالي.
وحتى لا يفهمني القارئ الكريم خطأ فأنا هنا لا أناقش صحة هذا الإجراء من عدمه من الناحية الاقتصادية البحتة فهذا ليس الغرض من المقال، ولكني في الوقت نفسه أود أن نفكر جميعا عن السبب الذي دعا حامية الرأسمالية لأخذ هذا الموقف؟، والأهم (من وجهة نظري) هو ماذا يمكن أن نستفيد نحن دول العالم الثالث (مع عدم استساغتي لهذا التصنيف) ماذا نستفيد من هذه المحنة والدروس التي تلتها؟، وسأحاول في هذه المقالة طرح بعض الرؤى حيال ذلك.
إن من أهم الدروس في هذه الأزمة أن الأمة (أي أمة كانت) حينما تتعرض للخطر في مصالحها الأساسية، مثل ما حدث لاقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، يجب عليها أن تتصرف بما تمليه عليها مصالحها الأساسية دون النظر لما قد يكون سائدا من نظريات سائدة، وإن كانت صحيحة في بعض الأحيان، وهذا التصرف من قيادة الأمة يجب أن يبنى على معطيات حقيقية نابعة ما تؤمن به الأمة من أساسيات بحيث تستعمل هذه المعرفة لطرح حلول للأزمة بجميع تفرعاتها وبجميع أبعادها ولا ننسى هنا ضرورة إيضاح الحقائق للناس عامة بحيث يكونوا على علم ودراية ما أمكن بخطورة الأزمة وهناك سيتحملون مع صاحب القرار تبعات الحل وصعوباته.
وهذا ما حدث بالفعل للولايات المتحدة، حيث بادرت الإدارة السابقة للرئيس بوش (على ما عرف عنها من الميل لليمين)، وبتبعتها إدارة الرئيس الحالي أوباما (على ما يظهر عليها من ميل لليسار)، بل كانت جهود الطرفين تعمل معا حتى قبل انتخاب الرئيس أوباما، ما يعني توافق الإدارتين لاتباع سياسة اقتصادية، وأخذ قرارات مالية تتنافى مع كل ما كان ينادي به الغرب من ليبرالية السوق وعلى جميع القطاعات: البنوك، شركات التأمين، صناعة السيارات وخلافه.
أما الدرس الثاني للأزمة المالية فهو يخصنا نحن العرب والمسلمين، فمما بدر من تحاليل نشرت في أكثر من جهة (ويكاد أن يجمع المحللون على هذه النقطة) أن سبب انفجار هذه الأزمة هو التوسع الشديد وغير المنضبط في عمليات المشتقات المالية والقروض البنكية لمن ليس لهم ملاءة مالية سعيا وراء الربح الجشع، ويدخل في ذلك ما تبعه من تحصيل للعلاوات والحوافز لدى إدارات الشركات الاستثمارية والبنوك.
وما يدعونا لأن نقول بأن هذا الأمر يخصنا نحن العرب والمسلمين أن هذه الأنواع من البيوع تخالف أساسيات ما معتقد وسائد لدينا، ويبقى علينا نحن معشر المسلمين المهمة الصعبة في أن نسبر غور أحكام الاقتصاد الإسلامي لمحاولة الإتيان بحلول اقتصادية ناجعة لمشكلات العالم المعاصر.وأعود مرة أخرى لمثلنا الذي اخترناه لعنوان المقالة «أهل مكة أدرى بشعابها»، حيث يتضمن تفصيلة مهمة جداً لأن تطبيق هذا المثل بدون العلم الصحيح سيكون نقمة بدلا من أن يكون نعمة، وهذه التفصيلة هي أن أهل مكة حتى يكونوا أدرى بشعابها، فإنه يجب عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم (أكثر من غيرهم) لفهم أوضاعهم ومشكلاتهم والتحديات أمامهم بشكل كامل ودقيق وهذا الفهم يكون بنشر العلم وتشجيعه والاهتمام به حتى إذا ما جوبه هؤلاء الناس بخطب ما فيمكنهم حلها حتى يكونوا بالفعل أدرى بالشعاب من غيرهم.
ويمكن للقارئ الكريم أن يرى أثر ذلك المثل في النتائج التي ترتبت على ردة فعل دولتين (هما الأرجنتين وماليزيا) حينما تعرضت تلك الدولتان إلى أزمات اقتصادية طاحنة في العقدين السابقين.
فنجد أن الأرجنتين نفذت اقتراحات صندوق النقد الدولي في مواجهة الأزمة بتعويم العملة بصورة قوية، ما أدى إلى هبوط العملة المحلية إلى مستويات متدنية، ما أدى إلى اضطرابات اقتصادية عمت أنحاء البلاد وتأثرت نسبة كبيرة من أصحاب الدخول المتوسطة والفقيرة في البلاد بصورة كبيرة نتيجة ذلك.
بينما في المقابل نجد أن تعامل الحكومة الماليزية كان مختلفاً خلال الأزمة التي مرت على دول «النمور الآسيوية» في بداية القرن الحالي، فقد رفضت الحكومة الماليزية بعض اقتراحات البنك الدولي لمجابهة الأزمة لقناعة تلك الحكومة بأن هذه الإجراءات ستؤدي إلى تضخم المشكلة بدلا من حلها واستعملت هذه الحكومة خبرتها المحلية للتعامل مع الأزمة وبعد مرور سنوات على هذه الأزمة نرى بوضوح صحة وجهة نظر الحكومة الماليزية في التعامل مع ذلك الموقف، وبالتالي صحة المثل المذكور مع شرط التطبيق الصحيح.