رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الحماية من الإفلاس فقهاً وقضاء (3 من 3)

أشرت في مقال الأسبوع الماضي عن أبرز ما جاء في البند الحادي عشر الأمريكي (على ذمة الناقل), وأبرز ما جاء في نظام الصلح الواقي من الإفلاس (أو نظام التسوية الواقية.. - كما نبه إليه أحد الإخوة - ومعناهما واحد من الناحية الشرعية والنظامية, ولهذا لا تقبل التسوية بنص النظام إلا بموافقة ثلثي الدائنين, وهذا من أبرز خصائص الصلح, لا سيما إذا علمنا أن نظامنا مستفاد من النظام المصري المسمى حرفياً بنظام «الصلح الواقي..») كما بينت في المقال السابق أقسام الصلح (أعني: الصلح الودي, والبسيط, والواقي), وأصل اليوم إلى التساؤل المهم الذي أثرته في المقال السابق, وهو: أيهما أكثر عدالة نظام الصلح الواقي من الإفلاس, أم البند الحادي عشر؟ وأيهما أرفق بالتاجر المدين نظام الصلح الواقي, أم البند الحادي عشر؟ وهل للشارع الحكيم موقف من حماية المدين من الإفلاس؟
حقيقة لا أستطيع أن أكون أكثر دقة في معالجة هذا الموضوع, مع عدم وجود ترجمة حرفية لنظام البند الحادي عشر, ولكن من خلال ما هو متاح من تفسيرٍ لهذا النظام - المشار إليه في المقال السابق - يمكن أن يجاب عن التساؤل الأول: بأن نظام الصلح الواقي أكثر عدالة من البند الحادي عشر؛ لمبررات عدة, منها: أن البند الحادي عشر يسمح بإعطاء الممولين الجدد أولوية في الحصول على أرباح الشركة, حيث يقدَّمون على الغرماء, بحجة أن التمويل قد ينتشل الشركة أو التاجر من حالة الإفلاس, وهذا يخالف أبسط مقومات العدالة؛ إذ كيف يسمح بمزاحمة غرماء جدد لدائنين استحقوا أموال المدين لحظة إعلان الإفلاس, إذ ربما يقع العكس, فلا تنجح عملية التمويل هذه, ويتردى المدين في مهاوي خسائر إضافية, فتضيع حقوق الدائنين, ويتأبط الممول أرباحه بحق الامتياز الممنوح له...! وأيضاً, فإن البند الحادي عشر يلزم الدائنين بقبول الأمر الواقع, وما يفرضه القانون, ولو سخط أصحاب الحق (وهم الدائنون), وذلك من خلال أسلوب إشهار الإفلاس - بمقتضى قانون البند - لا لتمكين الدائنين أو الغرماء من حقوقهم التي يفرضها قانون العدالة, وإنما يشهر الإفلاس؛ لتحقيق نقيض قصده, وهو حماية الشركات والتجار والملاك من الدائنين, عبر تخفيف الديون بتقليص نشاط الشركة, أو التخفف من الماركات التي تتعامل بها, وهو محاولة التفاف على الدائنين, وتفويت الفرصة عليهم قسرا, ودون رضاهم. وقد أشار إلى هذا الأسلوب المنافي للعدالة التاجر الثري, والمقامر الكبير «جورج سوروس» في مقاله الأخير في جريدة «الاقتصادية» بتاريخ 2/7/1430هـ, حيث قال في خاتمة مقاله: (والواقع أن بعض المشتقات لا ينبغي تداولها على الإطلاق, وأتحدث هنا وفي ذهني مقايضات عجز الائتمان, وما عليك سوى النظر في الإفلاس الذي شهدته أخيراً «أبيتيب باووتر», و»جنرال موتورز» كان حملة السندات في الحالتين يمتلكون مقايضات عجز ائتمان، واستطاعوا لذلك أن «يكسبوا المزيد من خلال الإفلاس، أكثر مما كان بإمكانهم الحصول عليه من خلال إعادة التنظيم. الأمر أشبه بشراء تأمين على الحياة على حياة شخص آخر، وامتلاك ترخيص بقتله» إن مقايضات عجز الائتمان هي أدوات دمار ينبغي تحريم استخدامها)أهـ . أما نظام الصلح الواقي, فهو يجمع بين الدائنين وبين المدين على كلمة سواء, ودون إجبار, حيث إذا بدا لهم صحة نوايا التاجر المدين, وقدرته على انتشال تجارته من الأزمة, وإعادة أموالهم إليهم وفق آلية واضحة وسليمة, إذا بدا لهم ذلك فإنهم سيوقعون هذا الصلح بنفس راضية, لا مكرهة, أما إذا رأوا أن هذا الصلح أو هذه التسوية أو أن إعادة جدولة الديون تقودهم إلى المجهول, فإنهم سيرفضون هذا الصلح بقوة النظام الذي يقف من الدائن والمدين على مسافة واحدة.
وأما بالنسبة للتساؤل الآخر: فالذي يبدو لي أن نظام الصلح الواقي, مع النظام (العجوز) للمحكمة التجارية أرفق بالتاجر المدين من جهة أن الإفلاس أصلاً لا يتحقق شرعاً ولا نظاماً إلا إذا اختنق التاجر المدين, وأصبح عاجزاً عن القيام بمسؤولياته, بحيث أحاطت ديونه بأمواله, كما نص على ذلك نظام المحكمة التجارية, في المادة (103)، حيث عرف المفلس بأنه: «من استغرقت الديون جميع أمواله, فعجز عن تأديتها» وبنحو هذا عرفه بعض الفقهاء, بل عرفه بعضهم بـ «من كانت ديونه أكثر من أمواله». وبالتالي نجد المدين قد أُعطي في الفقه والنظام مساحة واسعة من التحرك, وهامش كبير من الحرية, حيث لا يحكم عليه بالإفلاس إلا إذا أحاطت الديون بجميع ماله, فتصفى حينئذ أمواله, وتسلم لدائنيه, لأنه أعطي فرصة إلى آخر رمق, ويستدل ديوان المظالم على هذه الحالة بقرينة التوقف عن دفع الدين التجاري, علماً بأن المحاكم العامة في غير الديون التجارية وفي غير قضايا الشركات, لا تحجر على المدين بمجرد توقفه عن الدين الحال, وإنما ينظر في قدر دينه الحال, ويحجر على القدر المساوي للدين, دون باقي ممتلكاته, وهذا يكشف عن المدى الواسع للحرية الذي تعطيه المحاكم لأصحاب الديون المتعثرة, ولكن بالقدر الذي لا يطول مصلحة الدائنين, أما البند الحادي عشر فإنه يعطي تلك الشركات المدينة الحق في الحماية ولو لم تبلغ ديونها كل أموالها؛ لأن نظام الإفلاس لديهم (كما أفهمه من الترجمة المشار إليها) يقع على التاجر المدين عند عدم قدرته على سداد بعض ديونه التجارية ولو لم تبلغ ديونه رأسماله.
وإلى هنا أصل إلى بيان موقف الشارع الحكيم من حماية المدين من الإفلاس, سواء كان فرداً أو شركة, فأقول:
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثمار ابتاعها, فكثر دينه, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: تصدقوا عليه, فتصدق الناس عليه, فلم يبلغ ذلك وفاء دينه, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لغرمائه: خذوا ما وجدتم, ليس لكم إلا ذلك) فنجد هنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاول أن يحل مشكلة الدين التي آلت بذلك الرجل إلى الإفلاس, ولكن دون جدوى..! حيث استغرقت ديونه جميع ماله وزيادة, وهنا يصعب حل هذه المعادلة إذا زادت الديون على رأس المال, حتى البند الحادي عشر المشار إليه آنفا, في النقطة الخامسة منه أخذت بهذا المبدأ: (إذا فاقت الديون أصول الشركة, ولم يتبق لمالكها أي أموال, فإنه يتم إنهاء حقوقه, وتنتقل ملكية الشركة للدائنين) لأنه في هذه الحالة تنتهي حالة المعالجة إلى طريق مسدود.
وفي مصنف عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن كعب قال: (كان معاذ بن جبل رجلاً سمحاً, شاباً جميلاً, من أفضل شباب قومه, وكان لا يمسك شيئاً, فلم يزل يدان حتى أغلق ماله كله من الدين, فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -يطلب إليه أن يسأل غرمائه أن يضعوا له, فأبوا, فلو تركوا لأحد من أجل أحد تركوا معاذ بن جبل من أجل النبي صلى الله عليه وسلم, فباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل ماله في دينه, حتى قام معاذ بغير شيء, حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على طائفة من اليمن أميراً ليجبره...) والحديث قال عنه الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» وقد اختلف في وصله وإرساله. فنجد هنا أن معاذاً - رضي الله عنه - حين استغرق دينه كل ماله, حاول عليه الصلاة والسلام أن ينهي أزمته المالية بمحاولة الإصلاح بينه وبين دائنيه, ولكن أبى الدائنون هذا العرض, وأصروا على استرداد ديونهم كاملة غير منقوصة, وهنا نلحظ أمن الرعية من سطوة الراعي؛ برفضهم لطلبه, مع كونه النبي والحاكم في ذلك الوقت..! وما ذاك إلا لأنهم أمنوا جانبه, وعرفوا عدله عليه ـ الصلاة والسلام ـ, فمكَّن غرماءه من مال معاذ, ثم عالج وضعه المادي بتوليته أميراً على اليمن, ولهذا قال معاذ - كما في رواية ابن ماجه: (إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استخلصني بمالي, ثم استعملني) فانتشله من أزمته المادية باستعماله أميراً- مع كونه أهلاً للإمارة - ولم يتخذ غرمائه عليه الصلاة والسلام ضحية لأزمته, كما هي قواعد العدل والإنصاف.
بل جاءت أحاديث تعالج قضية الإفلاس قبل وقوعها, ومن ذلك ما جاء في البخاري عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله رجلاً, سمحاً إذا باع, وإذا اشترى, وإذا اقتضى) وقوله: (إذا اقتضى) يعني: سمحاً في المطالبة بحقه, حيث يطلبه بسهولة, وعدم إلحاف, ولا سيما لمن وقع في ورطة الديون, فهذا يدخل في رحمة الله تعالى إذا كان الدائن مع المدين سمحاً لينا, لا يلح في مسألته, بحيث يعرضه للإحراج أو ربما للإفلاس. ومثله حديث (من أراد أن تستجاب دعوته, وأن تكشف كربته, فليفرج عن معسر) رواه أحمد في مسنده. ولم يقف الهدي النبوي عند التفريج عن المعسر, بل حتى في التيسير على الموسر, كما جاء في صحيح البخاري عن ربعي بن حراش أن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم- ـ: (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم, قالوا: أَعَمِلت من الخير شيئاً؟ فقال: كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزا عن الموسر, قال: فتجاوزوا عنه) قال ربعي»الراوي عن حذيفة»: (كنت أُيَسِّر على الموسر, وأُنْظر المعسر) وهكذا نجد هذا المجتمع قد تربى على هدي النبوة, ومنهم ربعي: الذي ييسر على الموسر, وينظر المعسر, فقولوا لي بربكم: مجتمع كهذا.. هل يتعرض فيه الأفراد للإفلاس؟ كلا..., طبعاً إلا في حالات استثنائية, كما وقع مع غرماء معاذ بن جبل, وهي حالة تجسد صورة العدالة في إعادة الأموال والحقوق إلى أصحابها, ولو مع شفاعة السلطان..! وكأن هذه الحادثة وقعت لتكون نبراساً للقرون القادمة..!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي