150 عاما سجنا لمحتال «وول ستريت».. فكم يستحق محتالونا؟
في أقل من ستة أشهر من تاريخ اعتقال رجل المال برنارد مادوف، قضت المحكمة الجزئية يوم الإثنين 29 حزيران (يونيو) 2009 بسجنه 150 عاماً بسبب قيامه بأكبر عملية احتيال استثماري في تاريخ وول ستريت، حيث قدم أيضا اعتذاره لمن وثقوا به قائلاً ''لا يمكنني تقديم مبرر لسلوكي، كيف يمكن تبرير خيانة آلاف المستثمرين الذين ائتمنوني على مدخرات حياتهم''. والقضية لمن لا يعلم تفاصيلها هي باختصار شديد على النحو التالي:
برنارد لويس مادوف وسيط مالي ورئيس لبورصة ناسداك، ومن ثم تحول إلى مستثمر في سوق الأوراق المالية، وأصبح عضواً بارزاً في مجالس إدارات عديد من المنظمات المالية والخيرية!! ومن خلال هذا السجل الطويل الحافل بالمنجزات كون سمعة جيدة في أوساط المال والأعمال، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل في العالم أجمع، ليكون محل ثقة في جمع أموال طائلة على أساس استثمارها من خلال شركاته التي تعمل في نشاط الاستثمار في الأوراق المالية وأسواق المال.
وبسبب الأزمة المالية العالمية والتي تحولت إلى أزمة اقتصادية فيما بعد، بدأ المستثمرون مع رجل المال مادوف في البحث عن استثماراتهم وطلب تسييلها رغم العوائد الجيدة التي كانت تدفع لهم، ليكتشف العالم في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2009 الماضي، أن كل ما كان يفعله رجل المال والأعمال المحترم أنه كان يلعب معهم لعبة تلبيس ''الطواقي'' (بلغتنا الدارجة البسيطة)، ما سلط عليه الأضواء في كل وسائل الإعلام العالمية والمحلية، ليجدوا أن الرجل قام في بداية التسعينيات بجمع أموال طائلة مع ضمان دفع أرباح من خلال الأموال التي يجمعها من عملاء جدد، للعملاء الأقدم وهكذا دواليك. حيث أطلقت عليها اسم ''مخطط بونزي''، حيث قدرت المبالغ المجمعة بما يقرب من 70 مليار دولار أمريكي.
يرجع بسبب هذه التسمية ''مخطط بونزي'' إلى شخص أقدم من مادوف يدعى تشارلز بونزي، وهو إيطالي الأصل، قدم إلى أمريكا عام 1903م ونجح في فتره وجيزة في عام 1920 في جمع 15 مليون دولار من نحو 40 ألف شخص، مستغلا الفروق في أسعار طوابع البريد بين الولايات المتحدة وإيطاليا. وكونه جمع أموالا تفوق قدرته، ولم يكن يرغب في خسارة هذه المبالغ رغم شرعية ما كان يقوم به، ولكنه كان حريصا على عدم إعادة الأموال حتى لا يترك انطباعاً بأنه غير قادر على استثمارها. لذا، قام بتزوير خطابات المراكز المالية للمستثمرين معه وكذلك المركز المالي لشركته المسماة ''شركة تبادل الأوراق المالية''، واعتمد في ذلك على مهاراته وعلاقاته الشخصية في جذب مزيدٍ من المستثمرين حتى يستطيع سداد أرباح عملائه القدامى من خلال المحافظة على تدفق الأموال إلى الشركة من المستثمرين الجدد. وبهذا عرف ما فعله مادوف بخطة بونزي، حيث فعل ذلك لمدة تزيد على 17 عاماً متواصلة دون أن يشك أحد فيه، رغم أنه كان يتلاعب في المراكز المالية لشركته وكذلك في الأرباح التي كان يرسلها للمستثمرين. ويرجع السبب الرئيس أنه وطيلة هذا المدة لم يشرع أو يسأل أحداً عن مصادر أرباحه طالما أن الأرباح تتحقق وترسل في كل فترة. وهي إحدى سلبيات الرأسمالية الغربية، حيث الغاية تبرر الوسيلة! المشكلة أن عديدا من الجهات الحكومية وكذلك الجمعيات الخيرية داخل أمريكا وخارجها كانت مستثمرة مع مادوف. ولم ينكشف أمره إلا عندما اشتد الخناق على الجميع وأصبحوا بحاجة ماسة للسيولة ولا شيء غيرها، ليجد مادوف نفسه غير قادر على دفع المبالغ المستثمرة وتوقفت لعبة ''تلبيس الطواقي''، ومن ثم الاعتراف لذويه ولمحاميه وبعد ذلك للسلطات.
وليس فقط مادوف من حكم عليه بالسجن 150 عاماً، بل إن المراجع القانوني الخاص بشركات مادوف وهو دافيد فرايهلينغ قبض عليه في آذار (مارس) الماضي، حيث يواجه اتهامات يصل إجمالي عقوباتها إلى 105 سنوات في السجن، حسب مصادر غربية تحدثت عن هذا الموضوع. ولم تستطع الجهات المسؤولة عن تصفية شركات مادون تحصيل أكثر من 1.2 مليار دولار من أصل أكثر من 70 مليار دولار أموال مستثمرة لديه!
والسؤال الآن: ماذا فعلنا نحن بمن احتال علينا محليا بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية وبأسماء معلنة، ابتداء بقضايا المساهمات العقارية إلى مساهمات البيض وسوا، ومن سوق الأسهم والمجموعات التي تعيث في الأرض فساداً حتى اليوم مع مراجعيهم وموظفيهم ولم نستطع أن نفعل شيئا لهم؟
ما يحسب للسلطات الأمريكية أنها وخلال ''ستة أشهر فقط'' أصدرت الحكم على مادوف بالسجن 150 عاماً دون إبطاء أو مماطلة. وهو ما يعطي الجاذبية والثقة بالبيئة الاستثمارية الأمريكية، ولا عجب أنه ورغم كل ما حدث لأمريكا خلال الأزمة المالية، ورغم أنها مصدر الأزمة والمسبب الأول لها، مؤشرات الثقة في أمريكا كبيئة استثمارية لا تزال جاذبة وقوية، والسبب البسيط ولكنه المهم هو النظام الذي لا يعرف أحدا، فالنظام فوق الجميع! فعلاً، لا أحاديث مجالس أو إعلام! كم قضية مالية لدينا لا تزال عالقة وحقوق الناس لم ترد لسنوات باتت تمتد لعقود؟